وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِبْرَاءُ فِي الْمُكَاتَبَةِ إِذَا عَجَزَتْ، وَلَا فِي الْمُزَوَّجَةِ إِذَا طُلِّقَتْ، وَلَا فِي الْمُرْتَدَّةِ إِذَا أَسْلَمَتِ اعْتِبَارًا ببقاء الملك واستدلالا بأن طريان التَّحْرِيمِ عَلَيْهِ بِالْكِتَابَةِ، وَالتَّزْوِيجِ وَالرِّدَّةِ لِحُدُوثِ التَّحْرِيمِ بِالصِّيَامِ، وَالْحَيْضِ، وَالْإِحْرَامِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلِاسْتِبْرَاءِ لِبَقَاءِ الْمِلْكِ كَذَلِكَ لَمْ يَزَلْ بِهِ الْمِلْكُ؛ وَلِأَنَّ الرَّهْنَ يَمْنَعُ مِنْ وَطْئِهَا كَالْكِتَابَةِ، ثُمَّ لَمْ يَلْزَمْهُ الِاسْتِبْرَاءُ بَعْدَ فِكَاكِهَا مِنَ الرَّهْنِ كَذَلِكَ لَا يَلْزَمُهُ بَعْدَ عَجْزِهَا فِي الْكِتَابَةِ وَدَلِيلُنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَلَا لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ وَلَا حَائِلٌ حَتَّى تَحِيضَ " فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي كُلِّ إِبَاحَةٍ حَدَثَتْ بَعْدَ حَظْرٍ، وَلِأَنَّهُ اسْتَحْدَثَ استباحة يملك بَعْدَ عُمُومِ التَّحْرِيمِ، فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ الِاسْتِبْرَاءُ كَالَّتِي اسْتَحْدَثَ مِلْكَهَا، وَخَالَفَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ تَحْرِيمِ الصَّائِمَةِ، وَالْحَائِضِ وَالْمُحْرِمَةِ، لِاخْتِصَاصِهِ بِتَحْرِيمِ الْوَطْءِ دُونَ دَوَاعِيهِ فِي الْحَائِضِ وَالصَّائِمَةِ وَالتَّلَذُّذِ بِالنَّظَرِ إلى المحرمة، وتحريم ما ذَكَرْنَاهُ عَامٌّ زَالَ بِهِ عُمُومُ الِاسْتِبَاحَةِ فَافْتَرَقَا، وَأَمَّا الْمَرْهُونَةُ فَلَا يَحْرُمُ مِنْهَا دَوَاعِي الْوَطْءِ مِنَ الْقُبْلَةِ وَاللَّمْسِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي إِبَاحَةِ وَطْئِهَا إِذَا أُمِنَ حَمْلُهَا بِصِغَرٍ أَوْ إِيَاسٍ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ يَجُوزُ وَطْؤُهَا.
وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ حَبَلَهَا غَيْرُ مَأْمُونٍ، فَكَانَ الْمَنْعُ لِأَجْلِ الْحَبَلِ إِلَّا لِتَحْرِيمِ الْوَطْءِ، وَلَوْ أَذِنَ لَهُ الْمُرْتَهِنُ فِي وَطْئِهَا جَازَ، وَلَوْ كَانَ مَحْظُورًا لَمْ يَجُزْ.
(فَصْلٌ)
فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا الْأَصْلُ تَفَرَّعَ عَلَيْهِ مَا سَنُوَضِّحُهُ فَمِنْ ذَلِكَ إِذَا اشْتَرَى أَمَةً مَجُوسِيَّةً وَاسْتَبْرَأَهَا ثُمَّ أَسْلَمَتْ فَهِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا، لِأَنَّهَا قَبْلَ الْإِسْلَامِ مُحَرَّمَةٌ، وَبِالْإِسْلَامِ حَلَّتْ فَلَزِمَهُ الِاسْتِبْرَاءُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ لِحُدُوثِ الْإِبَاحَةِ بَعْدَ الْحَظْرِ كَالْمُرْتَدَّةِ إِذَا أَسْلَمَتْ وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَشْتَرِيَ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ أَمَةً وَيَسْتَبْرِئَهَا فَلَا يَجُوزُ لِلْعَبْدِ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِهَا، لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهَا، فَأَمَّا اسْتِمْتَاعُ السَّيِّدِ بِهَا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ مِنْ ثَمَنِهَا، وَلَا مِنْ غَيْرِهِ وَقْتَ اسْتِبْرَائِهَا حَلَّ لِلسَّيِّدِ وَطْؤُهَا لِوُجُودِ الِاسْتِبْرَاءِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْمِلْكِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ فَالسَّيِّدُ مَمْنُوعٌ مِنْهَا مَعَ بَقَاءِ الدَّيْنِ، لِأَنَّ مَا بِيَدِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ كَالْمَرْهُونِ عَلَى دَيْنِهِ، فَإِذَا قَضَاهُ قَالَ أَصْحَابُنَا: هِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا، لِأَنَّهَا إِبَاحَةٌ حَدَثَتْ بَعْدَ حَظْرٍ، وَلَا تَعْتَدُّ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الِاسْتِبْرَاءِ، وَعِنْدِي: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ اسْتِبْرَاءٌ، وتحل له بالاستبراء المتقدم لوجوده بعد استقرار الملك، وَأَنَّ الرَّهْنَ لَا يُوجِبُ الِاسْتِبْرَاءَ، وَكَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنْهُ، فَأَمَّا إِذَا تَزَوَّجَ الْحُرُّ بِأَمَةٍ ثُمَّ اشْتَرَاهَا بَطَلَ نِكَاحُهَا، وَحَلَّتْ لَهُ بِالْمِلْكِ مِنْ غَيْرِ اسْتِبْرَاءٍ، لِأَنَّهَا انْتَقَلَتْ مِنْ إِبَاحَةٍ بِزَوْجِيَّةٍ إِلَى إِبَاحَةٍ بِمِلْكٍ فَلَمْ يَتَخَلَّلْهَا حَظْرٌ فَلِذَلِكَ لَمْ تَسْتَبْرِئْ، وَلَكِنْ لَوْ أَرَادَ أَنْ يُزَوِّجَهَا بَعْدَ ابْتِيَاعِهَا لَمْ يَجُزْ إِلَّا بَعْدَ اسْتِبْرَائِهَا، وَبِمَاذَا يَكُونُ اسْتِبْرَاؤُهَا؟ مُعْتَبَرٌ بِحَالِ السَّيِّدِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ وَطِئَهَا قَبْلَ ابْتِيَاعِهَا اسْتَبْرَأَتْ نَفْسَهَا بِقُرْءٍ وَاحِدٍ اسْتِبْرَاءَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute