للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالثَّانِي: إِنَّ الْعَدَالَةَ أَصْلٌ، وَالْفِسْقَ حَادِثٌ، وَالْحَادِثُ يَحْتَاجُ إِلَى تَفْسِيرٍ. وَالْمَعْدُومُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَفْسِيرٍ. كَمَنْ قَالَ: هَذَا الْمَاءُ طَاهِرٌ، لَمْ يُسْتَفْسَرْ عَنْ طَهَارَتِهِ، وَلَوْ قَالَ: هُوَ نَجِسٌ، استفسر عن نجاسته [والله أعلم] .

[(مسألة)]

: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوِ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْجَهَالَةِ بِحَدٍّ لَمْ أَرَ بَأْسًا أَنْ يُعَرِّضَ لَهُ بِأَنْ يَقُولَ لَعَلَّهُ لَمْ يَسْرِقْ ".

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: الْحُقُوقُ ضَرْبَانِ:

أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، فَلَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُعَرِّضَ لِلْمُقِرِّ بِالْإِنْكَارِ، وَلَا يَعْرِّضَ لِلشُّهُودِ بِالتَّوَقُّفِ، سَوَاءً كَانَ الْحَقُّ فِي مَالٍ أَوْ حَدٍّ، لِأَنَّ حُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ مَوْضُوعَةٌ عَلَى الْحِفْظِ وَالِاحْتِيَاطِ، وَلِأَنَّ الْمُقِرَّ بِهَا لَوْ أَنْكَرَهَا لَمْ يُقْبَلْ إِنْكَارُهُ.

وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَحْضَةِ، كَالْحَدِّ فِي الزِّنَا وَالْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ. وَالْجَلَدِ فِي الْخَمْرِ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنْ أَمْرَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِوُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِ إِنْ أَقَرَّ. فَيُمْسِكُ الْحَاكِمُ عن التعريض له بالإنكار، حتى يبتدىء فَيُقِرُّ أَوْ يُنْكِرُ، لِأَنَّ التَّعْرِيضَ لَا يَزِيدُهُ إِلَّا عِلْمًا بِوُجُوبِ الْحَدِّ إِنْ أَقَرَّ وَسُقُوطِهِ إِنْ أَنْكَرَ.

وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْجَهَالَةِ بِوُجُوبِ الْحَدِّ، إِمَّا لِأَنَّه أَسْلَمُ قَرِيبًا، أَوْ لِأَنَّه مِنْ أَهَلَّ بَادِيَةٍ نَائِيَةٍ مِنْ جُفَاةِ الْأَعْرَابِ فَيَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُعَرِّضَ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْإِنْكَارِ مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ، فَإِنْ كَانَ فِي الزِّنَا قَالَ لَهُ: لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ، أَوْ لَمَسْتَ كَمَا عَرَّضَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لْمَاعِزٍ حِينَ أَقَرَّ بِالزِّنَا فَقَالَ: " لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ لَعَلَّكَ لَمَسْتَ ".

وَإِنْ كَانَ فِي حَدٍّ السَّرِقَةِ قال: لعلك سرقت من غير حرز.

وإن عَرَّضَ لَهُ بِأَنْ قَالَ: لَعَلَّكَ لَمْ تَسْرِقْ، وَكَانَتِ الدَّعْوَى مِنْ صَاحِبِ الْمَالِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعَرِّضَ لَهُ بِهَذَا، لِأَنَّ فِي تَعْرِيضِهِ بِهِ إِسْقَاطًا لِحَقِّهِ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ غَيْرِ صَاحِبِ الْمَالِ، جَازَ أَنْ يُعَرِّضَ لَهُ بِهِ.

وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أُتِيَ بِسَارِقٍ فَقَالَ لَهُ: " أَسَرَقْتَ أَمْ لَا " وَإِنْ كَانَ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ قَالَ: لَعَلَّكَ لَمْ تَشْرَبْ، أَوْ قَالَ: لَعَلَّكَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّهُ مُسْكِرٌ أَوْ لَعَلَّكَ أُكْرِهْتَ عَلَى شُرْبِ الْمُسْكِرِ.

وَإِنَّمَا جَازَ التَّعْرِيضُ لِلْمُقِرِّ بِمَا يَتَنَبَّهُ بِهِ عَلَى الْإِنْكَارِ، لِأَنَّه مَنْدُوبٌ إِلَى السَّتْرِ عَلَى نَفْسِهِ فِيمَا ارْتَكَبَهُ، وَأَنْ يَسْتَغْفِرَ رَبَّهُ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ أَتَى مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِ لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ عَلَيْهِ حَدَّ اللَّهِ ".

<<  <  ج: ص:  >  >>