قُلْنَا: هُمَا سَوَاءٌ، لِأَنَّ الْخِتَانَ وَحَلْقَ الشَّعْرِ حَقٌّ عَلَى الْمَقْطُوعِ مِنْهُ كَمَا أَنَّ الْقِصَاصَ حَقٌّ عَلَى الْمَقْطُوعِ مِنْهُ، غَيْرَ أَنَّ الْحَقَّ فِي الْخِتَانِ وَالْحَلْقِ لِلَّهِ تَعَالَى وَفِي الْقِصَاصِ لِلْوَلِيِّ فَكَمَا الْتُزِمَ حَقُّ اللَّهِ الْتُزِمَ حَقُّ الْآدَمِيِّ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِأُجْرَةِ الْجِذَاذِ وَالنَّقْلِ فَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ تَصَرُّفٌ فِيمَا قَدِ اسْتَقَرَّ مِلْكُهُ عَلَيْهِ فَاخْتُصَّ بِمُؤْنَةِ تَصَرُّفِهِ فِيهِ، وَكَذَلِكَ أُجْرَةُ مُنْتَقِدِ الثَّمَنِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْقِصَاصُ، لِأَنَّهُ إِبْقَاءٌ لِلْحَقِّ وَمَؤُونَةُ الْإِبْقَاءِ مُسْتَحَقَّةٌ عَلَى الْمُوَفِّي كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ} [يوسف: ٨٨] . ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ أُجْرَةَ الْكَيَّالِ عَلَى الْمُوفي دُونَ الْمُسْتَوْفِي، كَذَلِكَ فِي الْقِصَاصِ وَأَمَّا عَامِلُ الصَّدَقَاتِ فَهُوَ نَائِبٌ عَنْ أَهْلِ السُّهْمَانِ فِي الِاسْتِيفَاءِ لَهُمْ، وَلَيْسَ بِنَائِبٍ عَنْ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ فِي الْإِبْقَاءِ عَنْهُمْ فَكَانَتْ أُجْرَتُهُ وَاجِبَةً عَلَى مَنْ نَابَ عَنْهُ كَأُجْرَةِ الْوَكِيلِ، وَخَالَفَ الْمُقْتَصَّ، لِأَنَّهُ يَقُومُ بِالْإِبْقَاءِ دُونَ الِاسْتِيفَاءِ، فَصَارَ بِالْكَيَّالِ وَالْوَزَّانِ أَشْبَهَ.
(فَصْلٌ)
فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ أُجْرَةَ الْقِصَاصِ عَلَى الْمُقْتَصِّ مِنْهُ دُونَ الْمُقْتَصِّ لَهُ فَقَالَ الْمُقْتَصُّ مِنْهُ: أَنَا أَقْتَصُّ لَكَ مِنْ نَفْسِي لِتَسْقُطَ عَنِّي أُجْرَةُ الْقِصَاصِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَهُ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ مُوجِبَ الْمُمَاثَلَةِ فِي الْقِصَاصِ يَقْتَضِي أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ مَا أَخَذَهُ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَا يَكُونُ هُوَ الْآخِذَ لَهُمَا مَعًا.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ حَقٌّ عَلَيْهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُسْتَوْفِي لَهُ كَمَا لَوْ أَرَادَ بَائِعُ الصُّبْرَةِ أَنْ يَكِيلَهَا بِنَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، فَلَوْ قَالَ السَّارِقُ وَقَدْ وَجَبَ قَطْعُ يَدِهِ أَنَا أَقْطَعُ يَدَ نَفْسِي وَلَا أَلْتَزِمُ أُجْرَةَ قَاطِعِي فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ كَالْقِصَاصِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ، لِأَنَّ قَطْعَ السَّرِقَةِ حَقٌّ لِلَّهِ يُقْصَدُ بِهِ النَّكَالُ وَالزَّجْرُ فَجَازَ أَنْ يَقُومَ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ وَخَالَفَ القصاص المستحق للآدمي وبالله التوفيق.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute