طَلَّقَ امْرَأَتَهُ الْبَتَّةَ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ، فَإِنَّ الْوَاحِدَةَ لَا تَبُتُّ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَيْهِمَا، وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: فَإِنَّ الْوَاحِدَةَ تَبُتُّ، يَعْنِي بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ إِنْ لَمْ يُمْسِكْ.
وروي أن التؤمة طَلَّقَ امْرَأَتَهُ الْبَتَّةَ فَقَالَ عُمَرُ: مَا أَرَدْتَ قَالَ: وَاحِدَةً فَاسْتَحْلَفَهُ، فَقَالَ: أَتُرَانِي أُقِيمُ عَلَى فَرْجٍ حَرَامٍ، فَأَحْلَفَهُ وَأَقَرَّهُ عَلَى نِكَاحِهِ، وَلَيْسَ يُعْرَفُ لِعُمَرَ فِي هَذَا مُخَالِفٌ، فَكَانَ إِجْمَاعًا عَلَى مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ، لِأَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ إِذَا تَجَرَّدَ عَنْ عَدَدٍ وَعِوَضٍ، كَانَ رَجْعِيًّا في المدخول به، قِيَاسًا عَلَى قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ، أَوِ اعْتَدِّي أَوِ اسْتَبْرِئِي رَحِمَكِ، أَوْ أَنْتِ وَاحِدَةٌ، فَإِنَّ أبا حنفية وَافَقَ عَلَى هَذِهِ الْأَرْبَعِ أَنَّهُ يَمْلِكُ بِهَا الرَّجْعَةَ، وَلِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ يَلْحَقُهَا الطَّلَاقُ فَوَجَبَ أَنْ يَمْلِكَ رَجْعَتَهَا كَالْمُطَلَّقَةِ بِالصَّرِيحِ، وَبِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْكِنَايَةِ، وَلِأَنَّ مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِكِنَايَتِهِ، لِتَحْرِيمِ الثَّلَاثِ، وَلِأَنَّ مَا لَمْ يَمْنَعْ صَرِيحُهُ مِنَ الرَّجْعَةِ لَمْ تَمْنَعْ كِنَايَتُهُ مِنَ الرَّجْعَةِ لِقَوْلِهِ: أَنْتِ وَاحِدَةٌ، هُوَ كِنَايَةُ أَنْتِ طَالِقٌ.
وَلِأَنَّ صَرِيحَ الطَّلَاقِ مِنْ كِنَايَتِهِ فَلَمَّا لَمْ يَرْفَعِ الصَّرِيحُ الرَّجْعَةَ، فَأَوْلَى أن لَا تَرْفَعَهَا الْكِنَايَةُ، وَلِأَنَّهُ لَوْ نَوَى بِالطَّلَاقِ صَرِيحَ أَنَّهُ بَائِنٌ لَمْ يَرْفَعِ الرَّجْعَةَ، فَإِذَا تَجَرَّدَ لَفْظُ الْبَائِنِ عَنِ الصَّرِيحِ، فَأَوْلَى أَن لا يَرْفَعَ الرَّجْعَةَ، فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّهُ لَفْظٌ يَقْتَضِي الْبَيْنُونَةَ، فَمُنْتَقَضٌ بِقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ وَلَا رَجْعَةَ لِي عَلَيْكِ، تَكُونُ طَالِقًا وَلَهُ الرَّجْعَةُ، فَلَمْ يَرْتَفِعْ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَإِنْ كَانَ مُقْتَضِيًا لِلْبَيْنُونَةِ ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْأَصْلِ الَّذِي هُوَ الثَّلَاثُ، اسْتِيفَاءُ الْعَدَدِ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّهُ إِذَا وَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ وَقَعَ مُقْتَضَاهُ، فَمُنْتَقَضٌ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ، لِأَنَّهُ يَقْتَضِي طَلَاقًا مِنْ جِنْسِهِ، وَقَدْ يَكُونُ رَجْعِيًّا لَا يَخْرُجُ بِهِ مِنْ جِنْسِهِ.
(فَصْلٌ:)
وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ إِذَا نَوَى بِالْكِنَايَاتِ اثْنَتَيْنِ وَقَعَ اثْنَتَانِ عِنْدَنَا.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَقَعُ إِلَّا وَاحِدَةً، اسْتِدْلَالًا بأن قوله: أنت بائن يتضمن البيونة وَهِيَ نَوْعَانِ: صُغْرَى وَهِيَ الَّتِي تُثْبِتُ الرَّجْعَةَ وَتَحِلُّ قَبْلَ زَوْجٍ، وَكُبْرَى وَهِيَ الَّتِي تَقْطَعُ عِصْمَةَ الرَّجْعَةِ وَلَا تَحِلُّ إِلَّا بَعْدَ زَوْجٍ، فَإِذَا أَرَادَ الْكُبْرَى وَكَانَتِ الثَّلَاثُ تَبَعًا وَإِنْ لَمْ يُرِدِ الْكُبْرَى وَقَعَتِ الصُّغْرَى، لِأَنَّهَا لَا تَنْفَكُّ عَنْهَا وَهِيَ وَاحِدَةٌ، فَأَمَّا الثِّنْتَانِ فَخَارِجٌ مِنْهُمَا، وَلِأَنَّ لَفْظَ الْبَيْنُونَةِ لَا يَتَضَمَّنُ عَدَدًا، لِأَنَّ الْبَائِنَ مِثْلُ الْحَائِضِ وَالطَّاهِرِ، وَلَا يَحْسُنُ أَنْ تَقُولَ: أَنْتِ بَائِنَتَانِ كَمَا لَا يَحْسُنُ أَنْ تَقُولَ: أَنْتِ حَائِضَتَانِ وَطَاهِرَتَانِ، فَإِذَا لَمْ يَتَضَمَّنِ الْعَدَدَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعَلَّقَ عَلَيْهِ الْعَدَدُ.
وَدَلِيلُنَا هُوَ: أَنَّ كُلَّ عَدَدٍ مَلَكَ إِيقَاعَهُ بِالصَّرِيحِ، مَلَكَ إِيقَاعَهُ بِالْكِنَايَةِ كَالثَّلَاثِ، وَلِأَنَّ وُقُوعَ الثَّلَاثِ أَغْلَظُ مِنْ وُقُوعِ الثِّنْتَيْنِ، لِأَنَّ الثَّالِثَةَ لَا تَقَعُ إِلَّا بَعْدَ الثَّانِيَةِ، فَإِذَا وَقَعَتِ الثِّنْتَانِ مَعَ الثَّالِثَةِ فَأَوْلَى أَنْ تَقَعَ الثِّنْتَانِ دُونَ الثَّالِثَةِ، فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّ الْبَيْنُونَةَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute