فَإِنِ اسْتَنَابَ فِيهَا مَنْ أَمَرَهُ بِعَقْدِهَا صَحَّ؛ لِأَنَّهَا صَدَرَتْ عَنْ رَأْيِهِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يُبَاشِرَهَا بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ عَامُّ النَّظَرِ، فَلَمْ يَفْرُغْ لِمُبَاشَرَةِ كُلِّ عَمَلٍ، فَإِنِ اسْتَنَابَ فِيهَا مَنْ فوض عَقْدَهَا إِلَى رَأْيِهِ جَازَ إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَالرَّأْيِ، وَكَانَ عَقْدُهَا فِي هَذَا منسوبا إلى المستناب المباشر، وفي قَبْلَهُ مَنْسُوبًا إِلَى الْمُسْتَنِيبِ الْآمِرِ، وَهُمَا فِي اللُّزُومِ عَلَى سَوَاءٍ.
وَأَمَّا وُلَاةُ الثُّغُورِ، فَإِنْ كَانَ تَقْلِيدُهُمْ تَضَمَّنَ الْجِهَادَ وَحْدَهُ لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَعْقِدَ الْهُدْنَةَ إِلَّا قَدْرَ فَتْرَةِ الِاسْتِرَاحَةِ، وَهِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَنَةً؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُجَاهِدَ فِي كُلِّ سَنَةٍ، وَفِيمَا بَيْنَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَسَنَةٍ قَوْلَانِ؛ لِأَنَّهُ قَعَدَ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ عَنِ الْجِهَادِ مِنْ غَيْرِ هُدْنَةٍ جَازَ، فَكَانَ مَعَ الْهُدْنَةِ أَوْلَى بِالْجَوَازِ.
وَإِنْ تَضَمَّنَ تَقْلِيدَ وَالِي الثُّغُورِ أَنَّهُ يَعْمَلُ بِرَأْيِهِ فِي الْجِهَادِ وَالْمُوَادَعَةِ جَازَ أَنْ يَعْقِدَ الْهُدْنَةَ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا؛ لِدُخُولِهَا فِي وِلَايَتِهِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَسْتَأْذِنَ فِيهَا الْخَلِيفَةَ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَأْذِنْهُ انْعَقَدَتْ.
(مَسْأَلَةٌ)
: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَعَلَى مَنْ بَعْدَهُ مِنَ الْخُلَفَاءِ إِنْفَاذُهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. إِذَا اجْتَهَدَ الْإِمَامُ فِي الْهُدْنَةِ حَتَّى عَقَدَهَا ثُمَّ مَاتَ أَوْ خُلِعَ لَزِمَ مَنْ بَعْدَهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ إِمْضَاؤُهَا إِلَى انْقِضَاءِ مُدَّتِهَا، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ فَسْخُهَا، وَإِنِ اسْتَغْنَى الْمُسْلِمُونَ عَنْهَا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} [التوبة: ٤] . وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ نَصَارَى نَجْرَانَ أَتَوْا عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي وِلَايَتِهِ، وَقَالُوا لَهُ: إِنَّ الْكِتَابَ بِيَدِكَ وَإِنَّ الشَّفَاعَةَ إِلَيْكَ، وَإِنَّ عُمَرَ أَجْلَانَا مِنْ أَرْضِنَا، فَرُدَّنَا إِلَيْهَا فَقَالَ: إِنَّ عُمَرَ كَانَ رَشِيدَ الْأَمْرِ، وَإِنِّي لَا أُغَيِّرُ أَمْرًا فَعَلَهُ وَلِأَنَّ مَا نَفَذَ بِالِاجْتِهَادِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُفْسَخَ بِالِاجْتِهَادِ كَالْأَحْكَامِ، فَإِنْ كَانَ عَقْدُ الْهُدْنَةِ فَاسِدًا، فَإِنْ كَانَ فَسَادُهَا مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ لَمْ تُفْسَخْ لِنُفُوذِ الْحُكْمِ بِإِمْضَائِهَا وَإِنْ كَانَ فَسَادُهَا مِنْ نَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ فُسِخَتْ.
وَلَمْ يَجُزِ الْإِقْدَامُ عَلَى حَرْبِهِمْ إِلَّا بَعْدَ إِعْلَامِهِمْ بِفَسَادِ الْهُدْنَةِ، وَقَدْ تَظَاهَرَ يَهُودُ خَيْبَرَ بِكِتَابٍ نَسَبُوهُ إِلَى عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ كَتَبَهُ لَهُمْ فِي وَضْعِ الْجِزْيَةِ عَنْهُمْ، وَلَمْ يَنْقُلْهُ أَحَدٌ مِنَ الرُّوَاةِ عَنْهُ، فَلَمْ يَجُزْ قَبُولُ قَوْلِهِمْ فِيهِ، وَلَوْ كَانَ صَحِيحًا لَجَازَ أَنْ يَكُونَ لِسَبَبٍ اقْتَضَاهُ الْوَقْتُ، ثُمَّ سَقَطَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَجِيزُ أَنْ يُعَامِلَهُمْ بِمَا يَعْدِلُ فِيهِ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَوْلِهُ {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ^) [التوبة: ٢٩] وَلِذَلِكَ لَمْ يَعْمَلْ عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ وَأَوْجَبُوهَا عَلَيْهِمْ كَغَيْرِهِمْ مِنَ الْيَهُودِ.
وَتَفَرَّدَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ بِإِسْقَاطِهَا عَنْهُمْ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عاملهم على
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute