وَلِأَنَّهَا لَوْ وَجَبَتْ لَكَانَ مَأْخُوذًا بِفِعْلِهَا حَيًّا، وَمَأْخُوذَةً مِنْ تَرِكَتِهِ مَيِّتًا كَسَائِرِ الْحُقُوقِ وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَتَوَسَّطُ فِي وُجُوبِهَا مَذْهَبًا مَعْلُولًا، ويقول هي في فروض الكفايات إذا أظهرها الواحد فِي عَشِيرَتِهِ أَوْ قَبِيلَتِهِ ظُهُورًا مُنْتَشِرًا سَقَطَ فَرْضُهَا عَمَّنْ سِوَاهُ وَإِلَّا خَرَجُوا بِتَرْكِهَا أَجْمَعِينَ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ مَا وَجَبَ مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ تَعَيَّنَ كَالْوَلِيِّ وَالشَّاهِدَيْنِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ مَا تَعَلَّقَ بِحُقُوقِ الْأَمْوَالِ الْخَاصَّةِ عَمَّ وَجُوبُهُ كَالزَّكَوَاتِ أَوْ عَمَّ اسْتِحْبَابُهُ كَالصَّدَقَاتِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ فُرُوضَ الْكِفَايَةِ مُخْتَصٌّ بِمَا عَمَّ سُنَّتُهُ كَالْجِهَادِ أَوْ مَا تَسَاوَى فِيهِ النَّاسُ كَغُسْلِ الْمَوْتَى وَهَذَا خَاصٌّ مُعَيَّنٌ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ فِي فُرُوضِ الْكِفَايَةِ مَدْخَلٌ.
فَصْلٌ
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ وُجُوبِهَا أَوِ اسْتِحْبَابِهَا انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى مَا يَلْزَمُ الْمَدْعُوَّ إِلَيْهَا مِنَ الْإِجَابَةِ فَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْإِجَابَةَ إِلَيْهَا وَاجِبَةٌ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: إِنَّ الْإِجَابَةَ إِلَيْهَا مُسْتَحَبَّةٌ وَلَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ؛ لِأَنَّهَا تَقْتَضِي أَكْلَ الطَّعَامِ وَتَمَلُّكَ مَالٍ وَلَا يُلْزَمُ أَحَدٌ أَنْ يَتَمَلَّكَ مَالًا بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، وَلِأَنَّ الزَّكَوَاتِ مَعَ وُجُوبِهَا عَلَى الْأَعْيَانِ لَا يُلْزِمُ الْمَدْفُوعَةَ إِلَيْهِ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا فَكَانَ غَيْرُهَا أَوْلَى.
وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ مِنْ وُجُوبِ الْإِجَابَةِ مَا رَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ دُعِيَ إِلَى وَلِيمَةٍ فَلَمْ يُجِبْ فَلَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ جَاءَهَا بِغَيْرِ دَعْوَةٍ دَخَلَ سَارِقًا وَخَرَجَ مُغِيرًا ".
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " أجيبوا الداع فَإِنَّهُ مَلْهُوفٌ ".
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ ذِرَاعٌ لَقَبِلْتُ وَلَوْ دُعِيتُ إِلَى كُرَاعٍ لَأَجَبْتُ ".
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " شر الطعام الولائم يدعى إليها الأغنياء ويحرمه الفقراء والمساكين ".
وَلِأَنَّ فِي الْإِجَابَةِ تَآلُفًا وَفِي تَرْكِهَا ضَرَرًا وَتَقَاطُعًا.
فَصْلٌ
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ فَسَوَاءٌ قِيلَ إِنَّ فِعْلَهَا وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ فِي وُجُوبِ الْإِجَابَةِ إِلَيْهَا؛ لِأَنَّ رَدَّ السَّلَامِ وَاجِبٌ وَإِنْ كَانَ ابْتِدَاءُ السَّلَامِ غَيْرَ وَاجِبٍ، وَهَلْ يَكُونُ وُجُوبُهَا مِنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ أَوْ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ: