وَفِيهِ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: ٦٥] وَلَمْ يُعَزِّرْهُ وَإِنْ كَانَ مَا قَالَهُ يَقْتَضِيهِ.
وَلِأَنَّ التَّعْزِيرَ تَأْدِيبٌ فَأَشْبَهَ تَأْدِيبَ الْأَبِ وَالْمُعَلِّمِ، وَلِذَلِكَ قَالَ عُثْمَانُ وَعَبْدُ الرحمن لعمر رضي الله عنهم فِي إِجْهَاضِ الْمَرْأَةِ: لَا شَيْءَ عَلَيْكَ إِنَّمَا أنت معلم.
فَإِذَا صَحَّ جَوَازُ الْعَفْوِ عَنْهُ فَهُوَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا تَعَلَّقَ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى.
وَالثَّانِي: مَا تَعَلَّقَ بِحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ.
فَأَمَّا الْمُتَعَلِّقُ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى: فَكَالتَّعْزِيرِ بِأَسْبَابِ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ فَلِلْإِمَامِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالْعَفْوِ عَنْهُ إِذَا رَأَى ذَلِكَ صَلَاحًا لَهُ. وَلَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ وَيَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى خِيَارِهِ فِي الصُّلْحِ.
وَأَمَّا الْمُتَعَلِّقُ بِحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فَكَالْمُوَاثَبَةِ وَالْمُشَاتَمَةِ. فَفِيهِ حَقٌّ للمشتوم والمضروب وحق الإمام فِي التَّقْوِيمِ وَالتَّهْذِيبِ. فَلَا يَصِحُّ الْعَفْوُ عَنِ التَّعْزِيرِ فِيهِ إِلَّا بِاجْتِمَاعِهِمَا عَلَيْهِ. فَإِنْ عَفَا الْإِمَامُ عَنْهُ لَمْ يَسْقُطْ حَقُّ الْمَضْرُوبِ مِنْهُ، وَكَانَ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ. وَإِنْ عَفَا عَنْهُ الْمَضْرُوبُ وَالْمَشْتُومُ نُظِرَ فِي عَفْوِهِ فَإِنْ كَانَ بَعْدَ التَّرَافُعِ إِلَى الْإِمَامِ لَمْ يَسْقُطْ حَقُّ الإمام فيه، وإن كان لَهُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِتَعْزِيرِهِ إلَّا أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ.
وَإِنْ كَانَ قَبْلَ التَّرَافُعِ إِلَى الْإِمَامِ فَفِي سُقُوطِ حَقِّ الْإِمَامِ مِنْهُ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وهو قول أبي عبيد اللَّهِ الزُّبَيْرِيِّ: قَدْ سَقَطَ حَقُّهُ مِنْهُ، وَلَيْسَ لَهُ التَّعْزِيرُ فِيهِ، كَالْعَفْوِ عَنْ حَدِّ الْقَذْفِ يَمْنَعُ الْإِمَامَ مِنَ اسْتِيفَائِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَظْهَرُ لَا يَسْقُطُ حَقُّ الْإِمَامِ مِنْهُ؛ لِأَنَّ التقويم فيه من حقوق المصالح العامة، فلو تشاتما، وَتَوَاثَبَ وَالِدٌ مَعَ وَلَدِهِ، سَقَطَ تَعْزِيرُ الْوَالِدِ فِي حَقِّ وَلَدِهِ وَلَمْ يَسْقُطْ تَعْزِيرُ الْوَلَدِ فِي حَقِّ وَالِدِهِ؛ لِأَنَّ الْوَالِدَ لَا يُحَدُّ لِوَلَدِهِ وَيُحَدُّ الْوَلَدُ لِوَالِدِهِ. وَلَا يَسْقُطُ حَقُّ الْإِمَامِ فِي تَعْزِيرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَيَكُونُ تعزير الوالد مختصاً بالإمام مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْوَالِدِ وَالْإِمَامِ.
(فَصْلٌ)
وَأَمَّا الْحُكْمُ الثَّانِي فِي حُدُوثِ التَّلَفِ عَنْهُ فَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَى الْإِمَامِ سَوَاءٌ اسْتَوْفَاهُ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَضْمَنُهُ فِي الْحَالَيْنِ سَوَاءٌ أَوْجَبَهُ، أَوْ أَبَاحَهُ كَالْحُدُودِ؛ لِحُدُوثِهِ عَنْ تَأْدِيبٍ مُسْتَحَقٍّ. ودليلنا قضية عمر رضي الله عنه فِي إِجْهَاضِ الْمَرْأَةِ جَنِينَهَا حِينَ بَعَثَ إِلَيْهَا رسولا