وَدَلِيلُنَا: أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِاسْتِلْحَاقِ نَسَبِهِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقِّ الْوَلَدِ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مقبول الاعتراف في الحياة وبعد الموت، لأن لا يَكُونَ عَلَى الْجُحُودِ مُصِرًّا وَلِلْوَعِيدِ مُسْتَحِقًّا، وَقَدْ يَتَحَرَّرُ مِنْ مَعْنَى هَذَا الِاسْتِدْلَالِ قِيَاسَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ اسْتِلْحَاقٌ يَثْبُتُ بِهِ نَسَبُ الْحَيِّ فَوَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ بِهِ نَسَبُ الْمَيِّتِ كَالَّذِي تَرَكَ وَلَدًا مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ وَكَالْغَنِيِّ مَعَ مَالِكٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ اسْتِلْحَاقٌ يَثْبُتُ بِهِ نَسَبُ ذِي الْوَلَدِ فَوَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ نَسَبُ الْأَبِ مَنْ نسب غير ذي الْوَلَدِ الْحَيِّ، وَلِأَنَّ نَسَبَ الْوَلَدِ مَأْخُوذٌ مَنْ نَسَبَ الْأَبِ فَلَا يُؤْخَذُ مَنْ نَسَبَ الْوَلَد، لِأَنَّ الْفُرُوعَ تُرَدُّ إِلَى أُصُولِهَا، وَلَا تُرَدُّ الْأُصُولُ إِلَى فُرُوعِهَا، وَأَبُو حَنِيفَةَ عَكَسَ فِيهِمَا أُصُولَ الشَّرْعِ فَجَعَلَ نَسَبَ الْأَبِ مَأْخُوذًا مِنْ نَسَبِ الْوَلَدِ. وَلَمْ يَجْعَلْ نَسَبَ الْوَلَدِ مَأْخُوذًا مِنْ نَسَبِ الْأَبِ، وَمَا انْعَكَسَتْ بِهِ أُصُولُ الشَّرْعِ كَانَ مَدْفُوعًا، وَبِمْثِلِهِ يَنْدَفِعُ قَوْلُ مَالِكٍ فِي اعْتِبَارِ الْمَالِ، وَلِأَنَّ الْمَنْعَ مِنَ اسْتِلْحَاقِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ لِأَجْلِ الْمَوْتِ، أَوْ لِأَجْلِ التُّهْمَةِ، فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ لِأَجْلِ الْمَوْتِ لِجَوَازِ اسْتِلْحَاقِهِ مَعَ الْوَلَدِ وَالْمَوْتُ مَوْجُودٌ وَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ لِأَجْلِ التُّهْمَةِ فِي الْمِيرَاثِ، لِأَنَّهُ لَوْ مَاتَ فَقِيرًا لَمْ يَلْحَقْ بِهِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَتْهُومٍ وَتَرَكَ وَلَدًا لَا يَرْثُ لِرِقٍّ أَوْ كُفْرٍ أَلْحَقُوهُ بِهِ وَإِنْ كَانَ مَتْهُومًا، وَإِذَا بَطَلَ تَعْلِيقُ الْمَنْعِ بِوَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ ثَبَتَ تَسَاوِي حُكْمِهِ فِي الْحَيَاةِ، وَبَعْدَ الْمَوْتِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِقَطْعِ الْأَسْبَابِ مَعَ عَدَمِ الْوَلَدِ، وَبَقَائِهَا مَعَ وُجُودِهِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَسْبَابَ بَاقِيَةٌ مَعَ عَدَمِ الْوَلَدِ كَبَقَائِهَا مَعَ وُجُودِهِ، لِأَنَّهُ قد تعلق بالأسباب مع الْحُقُوقِ لَهَا وَعَلَيْهَا مِنْ تَحْرِيمِ الْمُصَاهَرَةِ وَغَيْرِهِ مَا لَا يَنْقَطِعُ بِالْمَوْتِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ وَإِنِ انْقَطَعَ بِهَا الْحُقُوقُ الْمُسْتَقْبَلَةُ لَمْ تُقْطَعْ بِهَا الْحُقُوقُ الْمَاضِيَةُ، وَإِنِ انْقَطَعَ بِهَا حَقُّ الْآدَمِيِّ. لَمْ يَنْقَطِعْ بِهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالتُّهْمَةِ فَقَدْ أَبْطَلْنَا أَنْ تَكُونَ عَلَيْهِ وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِأَنَّ وُجُودَ الْوَلَدِ يَجْمَعُ حَقَّيِ النَّسَبِ وَيُعْدَمَانِ بِفَقْدِهِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ يَتَعَلَّقُ بِالنَّسَبِ أَحْكَامٌ سِوَى أَحْكَامِ الْوَلَدِ فَلَمْ تَسْقُطْ بِعَدَمِ الْوَلَدِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ حُكْمَ النَّسَبِ مَعَ وُجُودِ الْوَلَدِ أَغْلَظُ وَمَعَ عَدَمِهِ أَخَفُّ. فَلَمَّا ثَبَتَ النَّسَبُ فِي أَغْلَظِ حَالَيْهِ كَانَ ثُبُوتُهُ فِي أَخَفِّهِمَا أَوْلَى.
(فَصْلٌ)
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ ثُبُوتِ نَسَبِهِ مَعَ وُجُودِ الْوَلَدِ وَعَدَمِهِ فَلَهُ مِيرَاثُهُ بِالْأُبُوَّةِ سَوَاءٌ حَجَبَ الْوَارِثَ أَوْ شَارَكَهُ بَاقِيَهُ كَانَتِ التَّرِكَةُ أَوْ مَقْسُومُهُ، وَلَوْ كَانَ الِابْنُ قَدْ مَاتَ قَتِيلًا، وَرِثَ الْأَبُ مَالَهُ وَدِيَتَهُ، وَجَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ مَنْ لَمْ يَزَلْ ثَابِتَ النسب من وقت الولادة.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute