وَهَذَا ذَكَرَهُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ. فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ الْقَوْلُ وَالْفِعْلُ مَعًا دَلِيلًا مَعَ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ دَفَعَ مَالًا قِرَاضًا عَلَى النِّصْفِ، وَرَوَى الْعَلَاءُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَفَعَ إِلَيْهِ مَالًا قِرَاضًا عَلَى النِّصْفِ.
ثُمَّ دَلِيلُ جَوَازِهِ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى أَنَّهُ لَمَّا جَاءَتِ السُّنَّةُ بِالْمُسَاقَاةِ وَهِيَ عَمَلٌ فِي مَحَلٍّ يَسْتَوْجِبُ بِهِ شَطْرَ ثَمَرِهَا اقْتَضَى جواز القرض بِالْمَالِ لِيَعْمَلَ فِيهِ بِهِ بِبَعْضِ رِبْحِهِ، فَكَانَتِ السُّنَّةُ فِي الْمُسَاقَاةِ دَلِيلًا عَلَى جَوَازِ الْقِرَاضِ، وَكَانَ الْإِجْمَاعُ عَلَى صِحَّةِ الْقِرَاضِ دَلِيلًا عَلَى جَوَازِ الْمُسَاقَاةِ، وَلِأَنَّ فِيهِمَا رِفْقًا بَيْنَ عَجْزٍ عَنِ التَّصَرُّفِ مِنْ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ وَمَعُونَةٍ لِمَنْ عُدِمَ الْمَالَ مِنْ ذَوِي الْأَعْمَالِ لِمَا يَعُودُ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَشْتَرِكَانِ فِيهِ مِنْ رِبْحِهِمَا.
فَصْلٌ
: فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الْقَرْضِ فَهُوَ عَقْدُ مَعُونَةٍ وَإِرْفَاقٍ يَجُوزُ بَيْنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ مَا أَقَامَا عَلَيْهِ مُخْتَارَيْنِ وَلَيْسَ بِلَازِمٍ لَهُمَا وَيَجُوزُ فَسْخُهُ لِمَنْ شَاءَ مِنْهُمَا.
وَصِحَّةُ عَقْدِهِ مُعْتَبَرَةٌ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ، أَحَدُهَا: اخْتِصَاصُ أَحَدِهِمَا بِالْمَالِ وَالثَّانِي انْفِرَادُ الْآخَرِ بِالْعَمَلِ وَالثَّالِثُ الْعِلْمُ بِنَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنَ الرِّبْحِ وَقَدْ يَتَفَرَّعُ عَنْ كُلِّ شَرْطٍ مِنْ هَذِهِ الشُّرُوطِ فُرُوعٌ نَسْتَوْفِيهَا في موضعها.
[مسألة]
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا يَجُوزُ الْقِرَاضُ إِلَّا فِي الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ الَّتِي هِيَ أَثْمَانٌ لِلْأَشْيَاءِ وَقِيَمِهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. لَا يَصِحُّ الْقِرَاضُ إِلَّا بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ دُونَ الْعُرُوضِ وَالسِّلَعِ وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ.
وَحُكِيَ عَنْ طَاوُسٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى جَوَازُ الْقِرَاضِ بِالْعُرُوضِ لِأَنَّهَا مَالٌ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَلِأَنَّ كُلَّ عَقْدٍ صَحَّ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ صَحَّ بِالْعُرُوضِ كَالْبَيْعِ، وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ الْقِرَاضَ مَشْرُوطٌ بِرَدِّ رَأْسِ الْمَالِ وَاقْتِسَامِ الرِّبْحِ وَعَقْدَهُ بِالْعُرُوضِ يَمْنَعُ مِنْ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ، أَمَّا رَدُّ رَأْسِ الْمَالِ فَلِأَنَّ فِي الْعُرُوضِ مَا لَا مِثْلَ لَهَا فَلَمْ يُمْكِنْ رَدُّهَا، وَأَمَّا الرِّبْحُ فَقَدْ يُفْضِي إِلَى اخْتِصَاصِ أَحَدِهِمَا بِهِ دُونَ الْآخَرِ لِأَنَّهُ إِنْ زَادَ خَيَّرَهُ الْعَامِلُ بِالرِّبْحِ فَاخْتُصَّ بِهِ رَبُّ الْمَالِ، وَإِنْ نَقَصَ أَخَذَ الْعَامِلُ شَطْرَ فَاضِلِهِ مِنْ غَيْرِ عَمَلٍ. وَهَذِهِ أُمُورٌ يَمْنَعُ الْقِرَاضُ مِنْهَا فَوَجَبَ أَنْ يمنع ما أَدَّى إِلَيْهَا وَلِأَنَّ مَا نَافَى مُوجَبَ الْقِرَاضِ مُنِعَ مِنْ أَنْ يَنْعَقِدَ عَلَيْهِ الْقِرَاضُ كَالْمَنَافِعِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَهُوَ أَنَّهَا لَا تَمْنَعُ مُوجَبَ الْقِرَاضِ وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْبَيْعِ فَالْمَعْنَى مِنْهُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ فِيهِ رَدُّ مِثْلٍ، وَلَا قِسْمَةُ رِبْحٍ فَجَازَ بِكُلِّ مَالٍ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute