للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[(فصل: [وجوه الاجتهاد] )]

:

وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي فِي وُجُوهِ الِاجْتِهَادِ فَهُوَ لَمْ يَرِدْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بَيَانُ حُكْمِهِ، فَقَدْ قِيلَ إِنَّ الَّذِي تَضَمَّنَهُ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْأَحْكَامِ مُشْتَمِلٌ عَلَى نَحْوِ خَمْسِمِائَةِ آيَةٍ، وَالَّذِي تَضَمَّنَتْهُ السُّنَّةُ نَحْوَ خَمْسِمِائَةِ حَدِيثٍ، وَنَوَازِلُ الْأَحْكَامِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى وَلَا تَقِفُ عَلَى هَذَا الْعَدَدِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْأُمَّةُ مُضَاعَةً لَا تَرْجِعُ إِلَى أَصْلٍ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ تُوصِلُهُمْ إِلَى الْعِلْمِ بِأَحْكَامِ النَّوَازِلِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: ٤] ، وَرَوَى الْمُطَّلِبُ بْنُ حَنْطَبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " ما تركت شيئا مما أمركم بِهِ إِلَّا وَقَدْ أَمَرْتُكُمْ بِهِ وَلَا تَرَكْتُ شَيْئًا مِمَّا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِلَّا وَقَدْ نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ ".

فَدَلَّتِ الْآيَةُ فِي إِكْمَالِ الدِّينِ وَدَلَّ الْخَبَرُ فِي اسْتِيفَاءِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، عَلَى أَنَّ لِلْأَحْكَامِ الْمَسْكُوتِ عَنْهَا أُصُولًا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يَتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى مَعْرِفَةِ مَا أُغْفِلَ بَيَانُهُ فِيهِمَا وَهُوَ الِاجْتِهَادُ فِيمَا تَضَمَّنَهَا مِنَ الْأَمَارَاتِ الدَّالَّةِ، وَاسْتِخْرَاجِ مَا تَضَمَّنَهَا مِنَ الْمَعَانِي الْمُسْتَنْبَطَةِ لِيَكُونَ الدِّينُ قَدْ كَمُلَ وَالْأَحْكَامُ قَدْ وَضُحَتْ، فَإِنَّ النُّصُوصَ عَلَى الْحَوَادِثِ مَعْدُولٌ عَنِ اسْتِيعَابِهِ لِأَمْرَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ شَاقٌّ فِي الْإِحَاطَةِ بِجَمِيعِهِ.

وَالثَّانِي: لِيَتَفَاضَلَ الْعُلَمَاءُ فِي اسْتِنْبَاطِهِ.

فَصَحَّ بِهَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ أَنْ يَكُونَ الِاجْتِهَادُ فِي الشَّرْعِ أَصْلًا يَسْتَخْرِجُ بِهِ حُكْمَ مَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ وَلَا انْعَقَدَ عَلَيْهِ إِجْمَاعٌ.

وَإِذْ قَدْ مَضَى الِاجْتِهَادُ فِي أَعْصَارِ الْأَنْبِيَاءِ وَجَبَ أَنْ يُوَضَّحَ اجْتِهَادُ الْعُلَمَاءِ فِيمَا بَعْدَهُمْ، وَهُوَ يَنْقَسِمُ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَقْسَامٍ:

أَحَدُهَا: مَا كَانَ حُكْمُ الِاجْتِهَادِ مُسْتَخْرَجًا مِنْ مَعْنَى النَّصِّ كَاسْتِخْرَاجِ عِلَّةِ الرِّبَا مِنَ الْبُرِّ فَهَذَا صَحِيحٌ غَيْرُ مَدْفُوعٍ عَنْهُ عِنْدَ جَمِيعِ الْقَائِلِينَ بِالْقِيَاسِ.

وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا كَانَ مُسْتَخْرَجًا مِنْ شَبَهِ النَّصِّ كَالْعَبْدِ فِي ثُبُوتِ تَمَلُّكِهِ لِتَرَدُّدِ شَبَهِهِ بِالْحُرِّ فِي أَنَّهُ يُمَلَّكُ لِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ وَشُبْهَةُ الْبَهِيمَةِ فِي أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ، لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ، وَهَذَا صَحِيحٌ وَلَيْسَ بِمَدْفُوعٍ عَنْهُ عِنْدَ مَنْ قَالَ بِالْقِيَاسِ، وَمَنْ لَمْ يَقُلْ غَيْرَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَقُلْ بِالْقِيَاسِ جَعَلَهُ دَاخِلًا فِي عُمُومِ أَحَدِ الشَّبَهَيْنِ، وَمَنْ قَالَ بِالْقِيَاسِ جَعَلَهُ مُلْحَقًا بِأَحَدِ الشَّبَهَيْنِ.

الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا كَانَ مُسْتَخْرَجًا مِنْ عُمُومِ النَّصِّ كَالَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ فِي قَوْلِهِ {إِلا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: ٢٣٧] يَعُمُّ الْأَبَ وَالزَّوْجَ، وَالْمُرَادُ بِهِ أَحَدُهُمَا، وَهَذَا صَحِيحٌ يُوصَلُ إِلَيْهِ بالترجيح.

<<  <  ج: ص:  >  >>