(البقرة: ٢٦٧) يَعْنِي الدَّنِيءَ وَكَقَوْلِهِ مِنْ بَعْدُ: {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} (البقرة: ٢٦٧) فَيُحْمَلُ عَلَى الدَّنِيءِ دُونَ الْحَرَامِ؛ بِدَلِيلِ مَا قُلْنَاهُ، وَلَيْسَ هُوَ إِلَى الْحَرَامِ بِمُوجِبٍ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي حُكْمِ التَّحْرِيمِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ضُمَّ إِلَى مَا يَحْرُمُ عَلَى الْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ، وَهَذَا لَا يَحْرُمُ عَلَى الْعَبِيدِ، فَجَازَ أَنْ لَا يَحْرُمَ عَلَى الْأَحْرَارِ.
(فَصْلٌ:)
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ، فَهُوَ مَكْرُوهٌ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي عِلَّةِ كَرَاهَتِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لِمُبَاشَرَةِ النَّجَاسَةِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) {المدثر: ٥) . فَعَلَى هَذَا يُكْرَهُ كَسْبُ كُلِّ مُبَاشِرٍ لِلنَّجَاسَةِ مِنْ كَنَّاسٍ، وَخَرَّازٍ وَقَصَّابٍ.
وَاخْتَلَفَ قَائِلُ هَذَا، هَلْ يَكُونُ كَسْبُ الْفَصَّادِ مِنْ جُمْلَتِهِمْ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَكُونُ مِنْ جُمْلَتِهِمْ، لِأَنَّهُ يُبَاشِرُ نَجَاسَةَ الدَّمِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أبي هُرَيْرَةَ إنَّهُ لَا يَكْرَهُ كَسْبَهُ؛ لِاقْتِرَانِهِ بِعِلْمِ الطِّبِّ، فَإِنَّهُ قَلَّ مَا يُبَاشِرُ نَجَاسَةَ الدَّمِ.
فَأَمَّا الْخَتَّانُ، فَمَكْرُوهُ الْكَسْبِ كَالْحَجَّامِ، بَلْ يَزِيدُ عَلَيْهِ فِي مُبَاشَرَةِ الْعَوْرَاتِ، وَتَكُونُ الْكَرَاهَةُ مَقْصُورَةً عَلَى مُبَاشَرَةِ الْأَنْجَاسِ، وَمُنْتَفِيَةً عَمَّنْ لَا يُبَاشِرُهَا مَنْ سَمَّاكٍ، وَدَبَّاغٍ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ كَرَاهَةَ التَّكَسُّبِ بِهِ لِدَنَاءَتِهِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ مِنَ الْمَكَاسِبِ دَنِيئًا وَحَسَنًا، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ ذَا قَرَابَةٍ لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدِمَ عَلَيْهِ، فَسَأَلَهُ عَنْ كَسْبِهِ، فَقَالَ: غَلَّةُ حَجَّامٍ أَوْ حَجَّامَيْنِ، فَقَالَ: إِنْ كَسَبَكُمْ لَدَنِيءٌ، أَوْ قَالَ: لَوَسِخٌ فَعَلَى هَذَا يُكْرَهُ مَعَ ذَلِكَ كَسْبُ السَّمَّاكِ، وَالدَّبَّاغِ، وَالْحَلَّاقِ وَالْقَيِّمِ.
وَاخْتُلِفَ عَلَى هَذَا فِي كسب الحجامين عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مَكْرُوهٌ، دَنِيءٌ، لِأَنَّهُ يُشَاهِدُ الْعَوْرَاتِ وَيَتَكَسَّبُ بِحرَانٍ غَيْرِ مُقَدَّرٍ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُكْرَهُ كَسْبُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُبَاشِرُ عَمَلًا، وَيُمْكِنُهُ غَضُّ طَرْفِهِ عَنِ الْعَوْرَاتِ، وَلَيْسَ يَتَكَسَّبُ بِمُبَاشَرَتِهَا؛ فَإِنْ أَرْسَلَ طَرَفَهُ صَارَ كَغَيْرِهِ مِنَ النَّاسِ.
وَكَذَلِكَ نَظَائِرُ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَجَمِيعُ هَذَا مَكْرُوهٌ لِلْأَحْرَارِ.
فَأَمَّا الْعَبِيدُ فَفِيهِمْ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يُكْرَهُ لَهُمْ كَالْأَحْرَارِ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ.