وَقَالَ أبو حنيفة: مَنْ أَحْيَا مَوَاتًا بِغَيْرِ إِذْنِ الْإِمَامِ لَمْ يَمْلِكْهُ وَانْتَزَعَهُ مِنْ يَدِهِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ كَانَ لِلْأَرْضِ ثَمَنٌ وَيُشَاعُ النَّاسُ عَلَيْهَا وَيَتَنَافَسُونَ فِيهَا لَمْ يَجُزْ إِحْيَاؤُهَا إِلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ، وَإِنْ كَانَتْ مُهْمَلَةً جَازَ إِحْيَاؤُهَا بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَاسْتَدَلَّ مَنْ مَنَعَ مِنْ إِحْيَاؤُهَا بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَاسْتَدَلَّ مَنْ مَنَعَ مِنْ إِحْيَائِهَا بِغَيْرِ إِذْنِ الْإِمَامِ بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ لِلْمَرْءِ إِلَّا مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُ إِمَامِهِ، وَلِأَنَّ مَا ثَبَتَ أُصُولُهُ مِنَ الْمُبَاحَاتِ لَمْ يُمْلَكْ بِغَيْرِ إِذْنِ الْإِمَامِ كَالْمَعَادِنِ، وَلِأَنَّ وُجُوهَ الْمَصَالِحِ إِذَا كَانَ اجْتِهَادٌ لِلْإِمَامِ فِيهَا يَقْطَعُ الِاخْتِلَاف وَالتَّنَازُع فِيهَا كَانَ إِذْنُ الْإِمَامِ شَرْطًا فِي ثُبُوتِ مِلْكِهَا قِيَاسًا عَلَى بَيْتِ الْمَالِ، وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَوَاتًا فَهِيَ لَهُ، فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِيمَا كَانَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ وَبِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَلِأَنَّ مَا يَبْتَدِئُ الْمُسْلِمُ بِمِلْكِهِ لَا يفتقر إلى إذن الإمام كالصيد، ولأن كل مَا لَا يَفْتَقِرُ بِمِلْكِ الصَّيْدِ إِلَيْهِ لَمْ يفتقر إلى إذن الإمام كالصيد، ولأن كل مَا لَا يَفْتَقِرُ بِمِلْكِ الصَّيْدِ إِلَيْهِ لَمْ يَفْتَقِرِ الْإِحْيَاءُ لَهُ كَإِذْنِ غَيْرِ الْإِمَامِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَا يَنْحَصِرُ عَلَى الْإِمَامِ الْإِذْنُ فِيهِ لَمْ يَفْتَقِرِ الْإِحْيَاءُ لَهُ كَإِذْنِ غَيْرِ الْإِمَامِ وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَا يَنْحَصِرُ عَلَى الْإِذْنُ فِيهِ لَمْ يَفْتَقِرْ تَمَلُّكُهُ إِلَى إِذْنِهِ كَالْمَاءِ وَالْحَطَبِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَالٍ لَمْ يَمْلِكْهُ مُسْلِمٌ لَمْ يَفْتَقِرِ الْمُسْلِمُ فِي تَمَلُّكِهِ إِلَى إِذْنِ الْإِمَامِ كَالْغَنَائِمِ، وَلِأَنَّهُ نَوْعُ تَمْلِيكٍ فَلَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى إِذْنِ الْإِمَامِ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ، وَلِأَنَّ الْإِذْنَ فِي التَّمْلِيكِ إِنَّمَا يُسْتَفَادُ بِهِ رَفْعُ الْحَجْرِ عَنِ الْمُتَمَلِّكِ وَالْمَوَاتُ مَرْفُوعُ الْحَجْرِ عَنْهُ فَلَمْ يُفِدْهُ الْإِذْنُ صِحَّةَ التَّمْلِيكِ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَيْسَ لِلْمَرْءِ إِلَّا مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُ إمامه " فمن وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مَا أَجَابَ بِهِ الشَّافِعِيُّ مِنْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ إِمَامُنَا وَإِمَامُ الْأَئِمَّةِ قَدْ طَابَتْ نَفْسُهُ لَنَا بِذَلِكَ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَوَتَانُ الْأَرْضِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ هِيَ لَكُمْ مِنِّي ".
وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَامٌّ فِي أَمْوَالِ الْفَيْءِ وَأَنْوَاعِ الْغَنَائِمِ وَسَائِرِ الْمَصَالِحِ فَخَصَّ الْمَوَاتَ مِنْهُ، بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من أحيا أرضاً موات فَهِيَ لَهُ "، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى الْمَعَادِنِ فَهُوَ أَنَّ الْمَعَادِنَ أَمْوَالٌ فِي الْحَالِ يُتَوَصَّلُ إِلَى أَخْذِهَا بِالْعَمَلِ فَصَارَتْ كَأَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمَوَاتُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ وَلَوْ جَازَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي كَوْنِهِمَا مَالًا، لِأَنَّ الْمَوَاتَ قَدْ يَصِيرُ مَالًا لَكَانَ الْمَعْنَى في أموال البيت الْمَالِ أَنَّ إِذْنَ الْإِمَامِ فِيهَا مَحْصُورٌ، وَفِي الْمَوَاتِ غَيْرُ مَحْصُورٍ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمَوَاتَ يَجُوزُ بِإِذْنِ الْإِمَامِ وَبِغَيْرِ إِذْنِهِ فَكُلُّ مُسْلِمٍ أَحْيَاهُ مِنْ رَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ أَوْ صَبِيٍّ أَوْ مَجْنُونٍ فَقَدْ مَلَكَهُ وَمَلَكَ حَرِيمَهُ الَّذِي لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ، فَإِنْ خُرِّبَ بَعْدَ إِحْيَائِهِ حَتَّى صَارَ مَوَاتًا لَمْ يَزُلْ عَنْهُ مِلْكُ مَالِكِهِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: قَدْ زَالَ مِلْكُهُ بِزَوَالِ الْعِمَارَةِ فَإِنْ أَحْيَاهَا غَيْرُهُ كَانَ أَحَقَّ بِهَا وقد مضى الكلام معه.
[مسألة]
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وسواءٌ كان إلى جنب قريةٍ عامرةٍ أو حَيْثُ كَانَ وَقَدْ أَقْطَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الدُّورَ فَقَالَ حَيٌّ مِنْ بَنِي زُهْرَةَ يُقَالُ لَهُمْ بَنُو عَبْدِ بْنِ زُهْرَةَ نَكَبَ عَنَّا ابْنُ أُمِّ عبدٍ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فَلِمَ ابْتَعَثَنِي اللَّهُ إِذَنْ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يُقَدِّسُ أُمَّةً لَا يُؤْخَذُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute