أحدهما: وهو الأصح هاهنا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَحْلِفُ خَمْسِينَ يَمِينًا وَالْأَصَحُّ فِي الْمُدَّعِينَ أَنْ تُقَسَّطَ بَيْنَهُمْ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ، كَالْمُنْفَرِدِ فِي وُجُوبِ الْقَوَدِ وَالْتِزَامِ الْكَفَّارَةِ، فَكَانَ كَالتَّفَرُّدِ فِي عَدَدِ الْأَيْمَانِ، وَخَالَفَ الْمُدَّعِينَ لِأَنَّ الْوَاحِدَ مِنَ الْجَمَاعَةِ لَا يُسَاوِي الْمُنْفَرِدَ فِيهَا فَافْتَرَقَ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ الْأَيْمَانَ مُقَسَّطَةٌ بَيْنَهُمْ عَلَى أَعْدَادِهِمْ يجبر الْكَسْرِ يَسْتَوِي فِيهِ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ بِخِلَافِ أَيْمَانِ الْمُدَّعِينَ، لِأَنَّ الْمُدَّعِينَ يَتَفَاضَلُونَ فِي مِيرَاثِ الدِّيَةِ فيفاضلوا فِي الْأَيْمَانِ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ يَسْتَوُونَ فِي الْتِزَامِ الدية فيساووا فِي الْأَيْمَانِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(فَصْلٌ)
فَإِنْ حَلَفُوا برئوا مِنَ الْقَتْلِ فَلَمْ يَلْزَمْهُمْ قَوَدٌ وَلَا دِيَةٌ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا حَلَفُوا غَرِمُوا الدِّيَةَ، احْتِجَاجًا بِرِوَايَةِ زِيَادِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ أَنَّ جَدَّهُ آتِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: أَخِي قُتِلَ بَيْنَ قَرْيَتَيْنِ فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَحْلِفُ مِنْهُمْ خَمْسُونَ رَجُلًا، فَقَالَ: مَا لِي من أخي غَيْرِ هَذَا قَالَ: نَعَمْ وَلَكَ مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ فَجَمَعَ لَهُ بَيْنَ الْأَيْمَانِ وَالدِّيَةِ. وَبِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. أَحْلَفَهُمْ خَمْسِينَ يَمِينًا مَا قَتَلْنَاهُ وَلَا عَرَفْنَا قَاتِلَهُ وَأَغْرَمَهُمُ الدِّيَةَ.
قَالَ: وَلِأَنَّ حُكْمُ الْقَسَامَةَ مُخَالِفٌ لِسَائِرِ الدَّعَاوَى فَصَارَتِ الْأَيْمَانُ فِي الْقَسَامَةِ مَوْضُوعَةً لِلْإِيجَابِ وَفِي غَيْرِهَا مِنَ الدَّعَاوَى مَوْضُوعَةً لِلْإِبْرَاءِ وَالْإِسْقَاطِ.
وَدَلِيلُنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِلْأَنْصَارِ فَيُبْرِئُكُمْ يَهُودُ بِخَمْسِينَ يَمِينًا فَاقْتَضَى أَنْ يبرأوا بِأَيْمَانِهِمْ؛ وَلِأَنَّ الْيَمِينَ تُوجِبُ تَحْقِيقَ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ وَإِثْبَاتَ حُكْمِهِ، فَلَمَّا كَانَتْ يَمِينُهُ مَوْضُوعَةً لِنَفْيِ الْقَتْلِ، وَجَبَ أَنْ يَنْتَفِيَ عَنْهُ حُكْمُ الْقَتْلِ كَمَا كَانَتْ يَمِينُهُ فِي سَائِرِ الدَّعَاوَى مَوْضُوعَةً لِنَفْيِ الدَّعْوَى فَسَقَطَ عَنْهُ حُكْمُهَا وَفِي هَذَا انْفِصَالٌ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ وَالْأَثَرِ.
وَإِنْ نَكَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ عَنِ الْأَيْمَانِ أُغْرِمُوا الدِّيَةَ وَلَمْ يُحْبَسُوا.
وقال: أبو حنيفة يحبسون حتى يلحفوا ثم يغرمون اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْأَيْمَانَ فِي الْقَسَامَةِ هِيَ نَفْسُ الْحَقِّ فَوَجَبَ أَنْ يُحْبَسُوا عَلَيْهِ كَمَا يُحْبَسُونَ عَلَى سَائِرِ الْحُقُوقِ وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْأَيْمَانَ فِي الشَّرْعِ مَوْضُوعَةٌ لِلتَّغْلِيظِ وَالزَّجْرِ، حَتَّى لَا يُقْدِمَ عَلَى كَذِبٍ فِي دَعْوَى وَلَا إِنْكَارٍ، فَإِذَا امْتَنَعَ مِنْهَا فَقَدِ انْزَجَرَ بِهَا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْبَسَ عَلَيْهَا لِيُكْرَهَ عَلَى أَيْمَانٍ رُبَّمَا اعْتَقَدَ كَذِبَهُ فِيهَا، فَيَصِيرُ مَحْمُولًا عَلَى الْكَذِبِ وَالْحِنْثِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute