قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِي الْأَيْمَانِ كُلِّهَا مَانِعٌ مِنَ انْعِقَادِهَا، وَهُوَ جَائِزٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الظَّاهِرِ عَلَى وُجُوبِ الِاسْتِثْنَاءِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، احْتِجَاجًا بِقَوْلِ الله تعالى: {وَلاَ تَقُولَنَّ بِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلَكَ غَدَاً إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللهُ) {الكهف: ٢٣ - ٢٤) .
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِي الِاسْتِثْنَاءِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اسْتَثْنَى فِي يَمِينِهِ تَارَةً، وَلَمْ يَسْتَثْنِ فِيهَا أُخْرَى، فَقَالَ: " وَاللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ "، وَآلَى مِنْ نِسَائِهِ شَهْرًا، وَلَمْ يَسْتَثْنِ.
وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " كَانَ يَحْلِفُ بِهَذِهِ الْيَمِينِ، لَا وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ ".
رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ إِذَا اجْتَهَدَ فِي الْيَمِينِ قَالَ: " وَالَّذِي نَفْسُ أَبِي الْقَاسِمِ بِيَدِهِ ".
وَلِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ سَبَبٌ يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى حَلِّ الْيَمِينِ فَلَمْ يَجِبْ كَالْحِنْثِ.
فَأَمَّا الْآيَةُ فَوَارِدَةٌ عَلَى طَرِيقِ الْإِرْشَادِ وَالتَّأْدِيبِ، أَنْ لَا يَعْزِمَ عَلَى أَمْرٍ إِلَّا أَنْ يُقْرِنَهُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْأَيْمَانِ، وَغَيْرِهَا لِيَكُونَ بِاللَّهِ مُسْتَعِينًا وَإِلَيْهِ مُفَوِّضًا.
(فَصْلٌ:)
فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الِاسْتِثْنَاءِ دُونَ وُجُوبِهِ، فَلَا تَأْثِيرَ لِاسْتِثْنَائِهِ إِلَّا أَنْ يَقُولَهُ مَوْصُولًا بِكَلَامِهِ، فَإِنِ انْقَطَعَ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ حُكْمٌ، وَحُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَعَطَاءٍ أَنَّهُ إِنِ اسْتَثْنَى فِي مَجْلِسِ يَمِينِهِ صَحَّ، وَإِنِ اسْتَثْنَى بَعْدَ فَرَاغِهِ لَمْ يَصِحَّ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: إِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَصِحُّ أَبَدًا فِي طَوِيلِ الزَّمَانِ وَقَصِيرِهِ.
وَالثَّانِيَةُ: إِنَّهُ يَصِحُّ إِلَى حِينٍ، وَالْحِينُ عِنْدَهُ سَنَةٌ وَلَا يَصِحُّ بَعْدَهَا احْتِجَاجًا بِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاذْكُر رَبَّكَ إذَا نَسِيْتَ) {الكهف: ٢٤) أَيْ: اذْكُرِ الِاسْتِثْنَاءَ إِذَا نسيته فعم الْأَمْرَ مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ.
ورَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " وَاللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا، وَاللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا، وَاللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا، وَسَكَتَ ثُمَّ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ " فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ الِاسْتِثْنَاءِ مُتَّصِلًا أَوْ مُنْفَصِلًا.
وَالدَّلِيلُ عَلَى بُطْلَانِ الِاسْتِثْنَاءِ بَعْدَ انقطاعه قول الله تعالى: {وَلاَ تَقُولَنَّ بِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلَكَ غَدَاً إلاَّ أنْ يَشَاءَ اللهُ} فَجَعَلَ الِاسْتِثْنَاءَ عَلَى الْفَوْرِ دُونَ التَّرَاخِي، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من خلف فَقَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهِ فَقَدِ اسْتَثْنَى "، فَذَكَرَ الِاسْتِثْنَاءَ بِحَرْفِ الْفَاءِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّعْقِيبِ وَالْفَوْرِ.