للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ مَا تَجِبُ بِهِ الْمُتْعَةُ فَفِيهِ قَوْلَانِ:

أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ: أَنَّهَا تَجِبُ بِالْعَقْدِ، لِأَنَّ مُتْعَةَ الْمُفَوَّضَةِ بَدَلٌ مِنْ مَهْرِ غَيْرِ الْمُفَوَّضَةِ، وَالْمَهْرُ يَجِبُ بِالْعَقْدِ، فَكَذَلِكَ الْمُتْعَةُ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ: إِنَّهَا تَجِبُ بِالطَّلَاقِ لَا بِالْعَقْدِ، وَهَذَا أَصَحُّ، لِأَنَّ حَالَهَا قَبْلَ الطَّلَاقِ مُتَرَدِّدَةٌ بَيْنَ وُجُوبِ الْمَهْرِ أَوِ الْمُتْعَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ بِالطَّلَاقِ وَجَبَتِ الْمُتْعَةُ. وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَرَنَ الْمُتْعَةَ بِالطَّلَاقِ، فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِهَا بِالطَّلَاقِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعُكُنَّ وَأُسَرِّحُكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً) {الأحزاب: ٢٨) . وَيَكُونُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَتَقْدِيرُهُ: فَتَعَالَيْنَ أُسَرِّحْكُنَّ وَأُمَتِّعْكُنَّ.

وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ الْكَلَامُ عَلَى نَسَقِهِ، لَيْسَ فيه تقديم ولا تأخير.

[فصل]

وما قَدْرُ الْمُتْعَةِ، فَهِيَ إِلَى رَأْيِ الْحَاكِمِ وَاجْتِهَادِهِ، غَيْرَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ اسْتَحْسَنَ فِي مَوْضِعٍ مِنَ الْقَدِيمِ أَنْ يَكُونَ بِقَدْرِ خَادِمٍ، وَحَكَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَاسْتَحْسَنَ فِيمَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنْ يَكُونَ بِقَدْرِ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا، وَحَكَاهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَلَيْسَ فِيمَا ذَكَرَهُ تَقْدِيرٌ لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ، وَلَا النُّقْصَانُ مِنْهُ، لِاخْتِلَافِهِ بِاخْتِلَافِ الْعَادَاتِ فِي أَجْنَاسِ النَّاسِ وَبُلْدَانِهِمْ، كَالْمَهْرِ الَّذِي لَا يَنْحَصِرُ بِقَدْرٍ، وَمَا وَجَبَ وَلَمْ يَنْحَصِرْ بِمِقْدَارٍ شَرْعِيٍّ كَانَ تَقْدِيرُهُ مُعْتَبَرًا بِاجْتِهَادِ الْحَاكِمِ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هِيَ مُقَدَّرَةٌ بِنِصْفِ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ، لِأَنَّهُ نِصْفُ أَقَلِّ مَا يَكُونُ مَهْرًا عِنْدَهُ.

وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّ التَّحْدِيدَ بِنِصْفِ الْمَهْرِ إِنْ لَمْ يُوجَدْ شَرْعًا، فَلَيْسَ فِي الِاجْتِهَادِ مَا يَقْتَضِيهِ، وَلَا نَجْعَلُهُ بِالنِّصْفِ أَخَصَّ مِنْهُ بِالثُّلُثِ أَوِ الرُّبُعِ، فَإِنْ قِيلَ: لِأَنَّ غَيْرَ الْمَدْخُولِ بِهَا تَسْتَحِقُّ نِصْفَ الصَّدَاقِ.

قُلْنَا: فَقَدْ أَوْجَبَتِ الصَّدَاقَ وَأَسْقَطَتِ الْمُتْعَةَ.

وَفِي إِجْمَاعِنَا عَلَى إِيجَابِ الْمُتْعَةِ وَإِسْقَاطِ الصَّدَاقِ دَلِيلٌ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُتْعَةِ وَالصَّدَاقِ.

وَلَيْسَ مَا اسْتَحْسَنَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ قَدْرِ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا قَوْلًا بِالِاسْتِحْسَانِ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَنَعَ مِنْهُ الشَّافِعِيُّ، لِأَنَّهُ قَرَنَهُ بِدَلِيلٍ، وَهُوَ يَمْنَعُ مِنِ اسْتِحْسَانٍ بِغَيْرِ دَلِيلٍ.

فَصْلٌ

وَأَمَّا مَنْ تُعْتَبَرُ بِهِ الْمُتْعَةُ، فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: تُعْتَبَرُ بِحَالِ الزَّوْجِ وَحْدَهُ، فِي يَسَارِهِ، وَإِعْسَارِهِ، كَالنَّفَقَةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى المُقْتِرِ قَدَرُهُ) {البقرة: ٢٣٦) . كَمَا قَالَ فِي النَّفَقَةِ: {لِيُنْفِق ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا أَتَاهُ اللهُ) {الطلاق: ٧) .

فَعَلَى هَذَا يَكُونُ تَأْوِيلُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، " وَمَا رَأَى الْوَلِيُّ بِقَدْرِ الزَّوْجَيْنِ ".

<<  <  ج: ص:  >  >>