فَإِنْ خَفِيَتْ عَلَيْهِ الْقِيَمُ لِاخْتِلَافِ الْأَجْنَاسِ الْمُقَوَّمَةِ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ تَقْصِيرًا فِي صِفَتِهِ وَرَجَعَ الْحَاكِمُ فِي التَّقْوِيمِ إِلَى غَيْرِهِ، لِأَنَّ لِكُلِّ جِنْسٍ وَنَوْعٍ أَهْلَ خِبْرَةٍ وَهُمْ أَعْلَمُ بِقِيمَتِهِ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَلَيْسَ يُكْمِلُ مَعْرِفَةَ قِيَمِ الْأَجْنَاسِ كُلِّهَا أَحَدٌ.
وَلِلْقَاسِمِ اجْتِهَادٌ، كَالْحَاكِمِ، وَلَيْسَ لِلْكَاتِبِ اجْتِهَادٌ؛ لِأَنَّهُ مُثْبِتٌ لِحُكْمِ الْحَاكِمِ، فَكَانَ مَا يُعْتَبَرُ مِنْ أَوْصَافِ الْقَاسِمِ أَغْلَظَ مِنِ اعْتِبَارِهَا فِي الْكَاتِبِ.
(ضَمُّ الشَّهَادَاتِ وَحِفْظُهَا)
(مَسْأَلَةٌ)
: قال الشافعي: " وَيَتَوَلَّى الْقَاضِي ضَمَّ الشَّهَادَاتِ وَرَفْعَهَا لَا يَغِيبُ ذَلِكَ عَنْهُ وَيَرْفَعُهَا فِي قِمَطْرٍ وَيَضُمُّ الشَّهَادَاتِ وَحُجَجَ الرَّجُلَيْنِ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ مُتَرْجَمَةً بِأَسْمَائِهِمَا وَالشَّهْرِ الَّذِي كَانَتْ فِيهِ لِيَكُونَ أَعْرَفَ لَهُ إِذَا طَلَبَهَا فَإِذَا مَضَتْ سَنَةٌ عَزَلَهَا وَكَتَبَ خصوم سنة كذا حتى تكون كل سنة مفروزة وكل شهر مفروزا ولا يفتح المواضع التي فيها تلك الشهادات إلا بعد نظره إلى خاتمه أو علامته وأن يترك في يدي المشهود له نسخة بتلك الشهادات ولا يختمها ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْقَضَاءُ فَهُوَ الْفَصْلُ لِانْقِضَاءِ التَّنَازُعِ بِهِ قَالَ اللَّهِ تَعَالَى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ} [الإسراء: ٢٢] .
وَالَّذِي يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي فِي نَظَرِهِ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ:
أَحَدُهَا: فَصْلُ التَّنَازُعِ بَيْنَ الْخُصُومِ.
وَالثَّانِي: التَّوْثِقَةُ فِيمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ مِنَ الْحُقُوقِ.
وَالثَّالِثُ: حِفْظُ مَا حصل عنده من الحجج والوثائق.
(القول في فصل التنازع)
فَأَمَّا الْأَوَّلُ: وَهُوَ فَصْلُ التَّنَازُعِ بَيْنَ الْخُصُومِ فَلَهُ حَالَتَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِيهِ وَاضِحًا فَيُعَجِّلُ فَصْلَهُ فِي الْوَقْتِ الْمَأْلُوفِ، مِنْ زَمَانِ نَظَرِهِ، وَلَا يَلْزَمُهُ فِي اللَّيْلِ، وَأَوْقَاتِ الِاسْتِرَاحَةِ أَنْ يَفْصِلَهُ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ مَعَ الْمُكْنَةِ الْمَأْلُوفَةِ أَنْ يُؤَخِّرَهُ، فَإِنْ أَخَّرَهُ أَثِمَ، إِلَّا أَنْ يُحَلِّلَهُ الْخُصُومُ.
فَإِنِ اتَّفَقَ الْخَصْمَانِ عَلَى تَأْخِيرِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَحْمِلَهُمَا عَلَى تَعْجِيلِهِ.
وَإِنْ دَعَا أَحَدُهُمَا إِلَى تَعْجِيلِ فَصْلِهِ، وَدَعَا الْآخَرُ إِلَى تَأْخِيرِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَحْمِلَهَا عَلَى تَعْجِيلِهِ وَعَمِلَ عَلَى قَوْلِ الطَّالِبِ دُونَ الْمَطْلُوبِ؛ لِأَنَّ فَصْلَ التَّنَازُعِ حَقٌّ لِلْمَطْلُوبِ دُونَ الطَّالِبِ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِيهِ مُشْتَبِهًا فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: