للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالثَّانِي: أَنَّ الرَّدَّ وَالتَّشْمِيتَ حَرَامٌ وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ لَكِنْ يَرُدُّ عَلَيْهِ إِشَارَةً بِيَدِهِ.

فَإِنْ قِيلَ: الْكَلَامُ كَانَ مُحَرَّمًا وَرَدُّ السَّلَامِ وَاجِبٌ، قِيلَ: لِأَنَّ الْإِنْصَاتَ وَاجِبٌ عَلَى الْأَعْيَانِ، وَالرَّدَّ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَفُرُوضُ الْأَعْيَانِ أَوْكَدُ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ.

وَالثَّالِثُ: أَنَّ رَدَّ السَّلَامِ مُحَرَّمٌ وَتَشْمِيتَ الْعَاطِسِ غَيْرُ مُحَرَّمٍ، لِأَنَّ السَّلَامَ وَضَعَهُ فَيَ غَيْرِ مَوْضِعِهِ بِاخْتِيَارِهِ فَلَمْ يَسْتَحِقَّ الرَّدَّ عَلَيْهِ، وَالْعَاطِسَ عَطَسَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ فَلَمْ يَكُنْ مَنْسُوبًا إِلَى وَضْعِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ فاستحق التشميت.

[(مسألة)]

: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " والجمعة خلف كل إمام صَلَّاهَا مِنْ أَمِيرٍ وَمَأْمُورٍ وَمُتَغَلِّبٍ عَلَى بَلَدٍ وَغَيْرِ أَمِيرٍ جَائِزَةٌ وَخَلْفَ عَبْدٍ وَمُسَافِرٍ كَمَا تُجْزِئُ الصَّلَاةُ فِي غَيْرِهَا ".

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ.

صَلَاةُ الْجُمْعَةِ لَا تَفْتَقِرُ إِلَى حُضُورِ السُّلْطَانِ، وَمَنْ أَدَّاهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِشَرَائِطِهَا انْعَقَدَتْ بِهِ، وَذَهَبَ أبو حنيفة إِلَى أَنَّ الْجُمْعَةَ لَا تَنْعَقِدُ إِلَّا بِحُضُورِ السُّلْطَانِ أَوْ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ مِنْ قَاضٍ أَوْ شُرْطِيٍّ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُقِيمُهَا بِنَفْسِهِ أَوْ بِمَنْ يُوَلِّيهِ إِقَامَتَهَا مِنْ قِبَلِهِ، وَبِهِ جَرَى الْعَمَلُ فِي عَهْدِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَعَهْدِ خُلَفَائِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَكَانَ ذَلِكَ بَيَانًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: " فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ " قَالُوا: وَلِأَنَّهُ فَرْضٌ يَلْزَمُ الْكَافَّةَ لَا يُقِيمُهُ إِلَّا وَاحِدٌ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُقِيمَهُ إِلَّا السُّلْطَانُ كَالْحُدُودِ، قَالُوا: وَلِأَنَّهُ لَوِ اسْتَوَى السُّلْطَانُ وَغَيْرُهُ فِي جَوَازِ إِقَامَتِهَا لَاسْتَوَيَا فِي الِاخْتِيَارِ، وَفِي إِجْمَاعِهِمْ عَلَى إِمَامَةِ السُّلْطَانِ أَوْلَى دَلِيلٍ عَلَى عَدَمِ تَسَاوِيهِمَا فِي جَوَازِ الْإِمَامَةِ.

وَدَلِيلُنَا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " صَلُّوا خَلْفَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ " وَقِيلَ إِنَّ عليا بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَلَّى بِالنَّاسِ الْجُمْعَةَ وَالْعِيدَ وَعُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَحْصُورٌ، وَلَمْ يَكُنْ حِينَ صَلَّاهَا إِمَامًا وَلَا أَمِيرًا، وَقَدْ أَخْرَجَ النَّاسُ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ عَنِ الْمَدِينَةِ وَكَانَ أَمِيرًا عَلَيْهَا، وَقَدَّمُوا أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ، فَصَلَّى بِهِمُ الْجُمْعَةَ وَأَخْرَجُوا الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ عَنِ الْكُوفَةِ، وَكَانَ أَمِيرًا عَلَيْهَا، وَقَدَّمُوا ابْنَ مَسْعُودٍ، فَصَلَّى بِهِمُ الْجُمْعَةَ فَكَانَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى جَوَازِهَا بِغَيْرِ سُلْطَانٍ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ عَلَى الْبَدَنِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَفْتَقِرَ إِقَامَتُهَا إِلَى سُلْطَانٍ، كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ مِنَ الْحَجِّ وَالصَّلَاةِ.

وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ إِقَامَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بنفسه: فلذلك بَيَانٌ لِأَفْعَالِهَا، لِأَنَّ الْبَيَانَ إِذَا وَقَعَ بِالْفِعْلِ لَمْ تُعْتَبَرْ فِيهِ صِفَاتُ الْفَاعِلِ، وَلَوِ اعْتُبِرَ كَوْنُهُ سُلْطَانًا لَاعْتُبِرَ كَوْنُهُ نَبِيًّا.

وَقِيَاسُهُمْ عَلَى الْحُدُودِ لَا يَصِحُّ، لِمَا يُتَخَوَّفُ مِنَ التَّحَامُلِ فِي الْحُدُودِ لِطَلَبِ التَّشَفِّي،

<<  <  ج: ص:  >  >>