للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: ٥٣] فَدَلَّ عَلَى أَنَّ رُؤْيَةَ الْآيَاتِ تَدُلُّ عَلَى الْحَقِّ دُونَ الْإِلْهَامِ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: ١٠] .

يَعْنِي إِمَّا بِالنَّصِّ عَلَى حُكْمِهِ، وَإِمَّا بِالنَّصِّ عَلَى أَصْلِهِ، وَلَمْ يَجْعَلْ لِإِلْهَامِ الْقُلُوبِ عِلْمًا بِغَيْرِ أَصْلٍ.

ثُمَّ يُقَالُ: لِمَنْ أَثْبَتَ الْمَعَارِفَ بِالْإِلْهَامِ لِمَ قُلْتَ: بِالْإِلْهَامِ فَإِنِ اسْتَدَلَّ نَاقَضَ وَإِنْ قَالَ قُلْتُهُ بِالْإِلْهَامِ فَعَنْهُ سُئِلَ فَيُقَالُ لَهُ انْفَصِلْ عَمَّنِ ادَّعَى الْإِلْهَامَ فِي إِبْطَالِ الْإِلْهَامِ وَانْفَصِلْ عَمَّنِ ادَّعَى الْإِلْهَامَ بِخِلَافِ إِلْهَامِكَ فِي جَمِيعِ أَقْوَالِكَ.

(فَصْلٌ: [السَّبَبُ الْمُؤَدِّي إِلَى معرفة الأصول الشرعية] )

فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ النَّظَرِ فِي الْأُصُولِ الشَّرْعِيَّةِ فَالسَّبَبُ الْمُؤَدِّي إِلَى مَعْرِفَتِهَا وَالْعَمَلِ بِهَا شَيْئَانِ:

أَحَدُهُمَا: عِلْمُ الْحَقِّ وَهُوَ الْعَقْلُ: لِأَنَّ حُجَجَ الْعَقْلِ أَصْلٌ لِمَعْرِفَةِ الْأُصُولِ إِذْ لَيْسَ تُعْرَفُ صِحَّةُ الْأُصُولِ إِلَّا بِحُجَجِ الْعُقُولِ. وَلِذَلِكَ لَمْ يَرِدِ الشَّرْعُ إِلَّا بِمَا أَوْجَبَهُ الْعَقْلُ أَوْ جَوَّزَهُ وَلَمْ يَرِدْ بِمَا حَظَرَهُ الْعَقْلُ وَأَبْطَلَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: ٤٣] مَعْنَاهُ وَمَا يَعْلمُهَا إِلَّا الْعَاقِلُونَ لِقَوْلِهِ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُولِي النُّهَى} [طه: ٥٤] يَعْنِي أُولِي الْعُقُولِ.

فَصَارَتْ حُجَجُ الْعُقُولِ قَاضِيَةً عَلَى حُجَجِ السَّمْعِ وَمُؤَدِّيَةً إِلَى عِلْمِ الِاسْتِدْلَالِ، وَلِذَلِكَ سَمَّى كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْعَقْلَ أُمَّ الْأُصُولِ.

وَالسَّبَبُ الثَّانِي فِي مَعْرِفَةِ الْأُصُولِ الشَّرْعِيَّةِ مَعْرِفَةُ لِسَانِ الْعَرَبِ:

وَهُوَ مُعْتَبَرٌ فِي حُجَجِ السَّمْعِ خَاصَّةً قَالَ الله تعالى: {وما أرسلنا من رسول إلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: ٤] لِأَنَّهُ لَا يُخَاطِبُهُمْ إِلَّا بِمَا يُفْهَمُ عَنْهُ لِيَكُونَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ وَلَهُمْ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: ١٠٣] فَاحْتَاجَ النَّاظِرُ إِلَى مَعْرِفَةِ لِسَانِهِمْ، وَمَوْضُوعِ خِطَابِهِمْ، لِيُفَرِّقَ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، وَبَيْنَ الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ، وَبَيْنَ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ، وَبَيْنَ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ، وَبَيْنَ الْمُفَسَّرِ وَالْمُجْمَلِ، وَبَيْنَ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ، وَيُفَرِّقَ بَيْنَ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ، وَيَعْرِفُ صِيغَةَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي.

فَإِنْ قَصُرَ عَنْهَا لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ النَّظَرُ.

وَلَسْنَا نَعْنِي أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِجَمِيعِ لُغَتِهِمْ وَإِعْرَابِ كَلَامِهِمْ، لِأَنَّ التَّشَاغُلَ بِهِ يَقْطَعُهُ عَنْ عِلْمِ مَا سِوَاهُ، وَإِنَّمَا نُرِيدُ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِمَوْضُوعِ كَلَامِهِمْ وَمَشْهُورِ خِطَابِهِمْ وَهُوَ

<<  <  ج: ص:  >  >>