(فَصْلٌ:)
فَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ: فَصُورَتُهَا فِيمَنْ نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ فَلَهُ حَالَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَصِفَهُ بِبَيْتِهِ الْحَرَامِ. فَيَقُولُ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَمْشِيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ؛ فَيَنْعَقِدُ بِهِ النَّذْرُ، وَيَلْزَمُ فِيهِ الْوَفَاءُ؛ لِأَنَّهُ من طاعات الله التي يتعبد بِهَا.
وَهَكَذَا لَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَذْهَبَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ، أَوْ أَقْصِدَهُ، أَوْ أَمْضِيَ إِلَيْهِ انْعَقَدَ بِهِ النَّذْرُ كَالْمَشْيِ إِلَيْهِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَنْعَقِدُ نَذْرُهُ بِالْمَشْيِ إِلَيْهِ، وَلَا يَنْعَقِدُ بِالْقَصْدِ لَهُ وَالذَّهَابِ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ بِالْمَشْيِ يُرِيدُ الْقُرْبَةَ وَبِالْقَصْدِ وَالذَّهَابِ غَيْرُ مُرِيدٍ لَهُمَا. وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: قَوْلُ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ) {الحج: ٢٧) فَجَعَلَ الرُّكُوبَ صِفَةً لِقَاصِدِيهِ كَالْمَشْيِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْقَصْدَ، وَالذَّهَابَ يَعُمُّ الْمَشْيَ وَالرُّكُوبَ فَدَخَلَ حُكْمُ الْخُصُوصِ في العموم.
والحال الثانية: أن لا يصفه بالبيت الحرام، ويقتضي عَلَى قَوْلِهِ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَمْشِيَ إِلَى بيت الله فله ثلاثة أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُرِيدَ بِهِ بَيْتَ اللَّهِ الْحَرَامَ، فَيَصِيرَ بِإِرَادَتِهِ فِي حُكْمِ مَنْ تَلَفَّظَ بِهِ فِي انْعِقَادِ نَذْرِهِ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُرِيدَ بِهِ غَيْرَهُ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ، وَمَسَاجِدِهِ التي لا فضل لنا عَلَى غَيْرِهَا، فَلَا يَنْعَقِدُ بِهِ نَذْرٌ، وَلَا يَلْزَمُهُ فِيهِ وَفَاءٌ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ مِنْ بَعْدُ.
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُطْلِقَ نَذْرَهُ، وَلَا يَقْتَرِنَ بِهِ إِرَادَةٌ، فَفِي إِطْلَاقِهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ ظَاهِرُ مَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ هَاهُنَا، أَنَّ مَعْهُودَ إِطْلَاقِهِ يَتَوَجَّهُ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ عُرْفًا؛ فَتَوَجَّهَ النَّذْرُ إِلَيْهِ حُكْمًا، فَصَارَ بِالْعُرْفِ كَالْمُضْمَرِ فَيَصِيرُ النَّذْرُ بِهِ مُنْعَقِدًا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ ظَاهِرُ، مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْأُمِّ وَنَقَلَهُ أَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَزِيُّ فِي جَامِعِهِ أَنَّهُ اسْمٌ مُشْتَرَكٌ يَنْطَلِقُ عَلَى مَسَاجِدِ اللَّهِ كُلِّهَا فَلَمْ يَتَعَيَّنْ إِطْلَاقُهُ مِنْ بَعْضِهَا، وَلَا يُحْمَلُ إِطْلَاقُهُ عَلَى إِضْمَارٍ تَجَرَّدَ عَنْ نِيَّةٍ فَعَلَى هَذَا لَا يَنْعَقِدُ بِهِ النَّذْرُ، وَلَوِ احْتَاطَ بِالْتِزَامِهِ كَانَ أَوْلَى.
(فَصْلٌ:)
فَإِذَا ثَبَتَ انْعِقَادُ النَّذْرِ بِقَصْدِ بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ لَمْ يَخْلُ حَالُ مُنْذِرِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: