فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إِنَّ اعْتِرَاضَ الْمُزَنِيِّ غَيْرُ مُتَوَجِّهٍ عَلَيْهِمْ وَلَيْسَ ذَلِكَ نَقْضًا لِأَصْلِهِمْ لِأَنَّهُمْ لَا يَقْضُونَ عَلَى غَائِبٍ مَا لَمْ يَتَّصِلْ بِحَاضِرٍ يَتَعَلَّقُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ وَهَذَا قَضَاءٌ عَلَى الْمُشْتَرِي الْحَاضِرِ، وَعَلَى الْبَائِعِ الْغَائِبِ، فَنَفَذَ الْقَضَاءُ عَلَيْهِ مَعَ غِيبَتِهِ لِنُفُوذِهِ عَلَى الْمُشْتَرِي بِحُضُورِهِ مَعَ أَنَّ أبا حنيفة يَجْعَلُ الْمُشْتَرِيَ وَكِيلًا لِلشَّفِيعِ فِي تَمَلُّكِ الشِّقْصِ لَهُ مِنَ الْبَائِعِ وَهُوَ يَرَى الْقَضَاءَ عَلَى وَكِيلِ الْغَائِبِ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى مِنْهُمْ أَبُو الْفَيَّاضِ إِنَّ هَذَا نَقْضٌ لِأَصْلِهِمْ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُزَنِيُّ فِي الِاعْتِرَاضِ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ دَعْوَى الشَّفِيعِ لِلْمُشْتَرِي عَقْدَ الْبَيْعِ كَدَعْوَى الْمُشْتَرِي وَدَعْوَى الْمُشْتَرِي عِنْدَهُمْ مَرْدُودَةٌ؛ لِأَنَّهَا دَعْوَى عَلَى غَائِبٍ فَإِذَا رَدُّوا دَعْوَى الْمُشْتَرِي، وَامْتَنَعُوا مِنَ الْقَضَاءِ لَهُ بِالشِّرَاءِ عَلَى الْغَائِبِ لَزِمَهُمْ أَنْ يَرُدُّوا دَعْوَى الشَّفِيعِ وَيَمْنَعُوا مِنَ الْقَضَاءِ لَهُ عَلَى الْغَائِبِ، وَإِنْ أَجَازُوهَا لِلشَّفِيعِ لزم إجازتها للمشتري.
[مسألة]
قال المزني رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَوِ اشْتَرَى شِقْصًا وَهُوَ شفيعٌ فَجَاءَ شفيعٌ آخَرُ فَقَالَ لَهُ الْمُشْتَرِي خُذْهَا كلها بالثمن أو دع قال هُوَ بَلْ آخُذُ نِصْفَهَا كَانَ ذَلِكَ لَهُ لِأَنَّهُ مِثْلُهُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُلْزِمَ شُفْعَتَهُ لِغَيْرِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، إِذَا كَانَ لِلشِّقْصِ شَفِيعَانِ فَاشْتَرَاهُ أَحَدُهُمَا، وَحَضَرَ الْآخَرُ مُطَالِبًا بِالشُّفْعَةِ، فَلَهُ أَخْذُ نِصْفِ الشِّقْصِ مِنْ شَرِيكِهِ الْمُشْتَرِي فِي شُفْعَتِهِ، وَقَالَ أبو حنيفة شُفْعَةُ الْمُشْتَرِي بَاطِلَةٌ فِيمَا اشْتَرَاهُ، وَلَا تَثْبُتُ لَهُ شُفْعَتُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَلِشَرِيكِهِ أَخْذُ جَمِيعِ الشِّقْصِ مِنْ يَدِهِ وَلَيْسَ لَهُ تَبْعِيضُ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ بِأَخْذِ النِّصْفِ مِنْهُ.
وَحَكَاهُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفِرَايِينِيُّ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ وَوَجَدْتُ أَبَا الْعَبَّاسِ بْنَ سُرَيْجٍ قَائِلًا بِخِلَافِهِ وَمُوَافِقًا لِأَصْحَابِهِ.
وَدَلِيلُ أبي حنيفة أَنَّ عَقْدَ الْبَيْعِ يتم ببائع ومشتري، فَلَمَّا لَمْ تَجِبْ لِلْبَائِعِ شُفْعَةٌ فِيمَا بَاعَ، لم يجب المشتري شُفْعَةٌ فِيمَا اشْتَرَى، وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّ أَحَدَ الْمُتَبَايِعَيْنِ قَدْ أَسْقَطَ شُفْعَتَهُ فِيمَا مَلَكَ عَقْدَهُ بِالْبَيْعِ قَالَ: وَالْإِنْسَانُ لَا يَثْبُتُ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ حَقٌّ أَلَا تَرَى أَنَّ جِنَايَةَ السَّيِّدِ عَلَى عَبْدِهِ هَدْرٌ؛ لِأَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنْهُ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَثْبُتَ لِلْمُشْتَرِي شُفْعَةٌ عَلَى نَفْسِهِ، وَتَثْبُتُ الشُّفْعَةُ عَلَيْهِ لِغَيْرِهِ.
وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الشُّفْعَةُ فِي كُلِّ شِرْكٍ ربعةٍ أَوْ غَيْرِهِ لا ببيعه حَتَّى يَعْرِضَ عَلَى شَرِيكِهِ فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ فَإِنْ بَاعَ فَشَرِيكُهُ أَحَقُّ بِهِ حَتَى يُؤْذِنَهُ ".
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute