وَقَالَ أبو حنيفة إِمْرَارُ الْمُوسَى عَلَى رَأْسِهِ واجب عليه؛ لقوله تعالى: {مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِرِينَ) {الفتح: ٢٧) فَعَلَّقَ الْحَلْقَ بِالرَّأْسِ فَلَمْ يُسْقِطْهُ ذَهَابُ الشَّعْرِ، وَهَذَا غَلَطٌ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْحُكْمَ مُتَعَلِّقٌ بِالشَّعْرِ دُونَ الرَّأْسِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَى رَأْسِهِ شَعْرٌ فَأَمَرَّ الْمُوسَى عَلَى رَأْسِهِ مِنْ غَيْرِ حَلْقِ الشَّعْرِ لَمْ يُجْزِهِ، وَلَوْ أَزَالَ الشَّعْرَ مِنْ غَيْرِ إِمْرَارِ الْمُوسَى عَلَى رَأْسِهِ أَجْزَأَهُ، وَإِذَا كَانَ حُكْمُ الْحَلْقِ مُتَعَلِّقًا بِالشَّعْرِ سَقَطَ الْحُكْمُ بِزَوَالِ الشَّعْرِ، كَالْأَقْطَعِ الذِّرَاعِ يَسْقُطُ عَنْهُ الْغَسْلُ لِزَوَالِ الْعُضْوِ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الْغَسْلُ.
وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّهُ فَرْضٌ يَتَعَلَّقُ بِجُزْءٍ مِنْ بَدَنِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَدَمُ الْجُزْءِ مُسْقِطًا لِفَرْضِهِ كَأَعْضَاءِ الْوُضُوءِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ حُكْمَ الْحَلْقِ يَتَعَلَّقُ بِوُجُودِ الِاسْمِ، وَلَا يُسَمَّى حَالِقًا بِإِمْرَارِ الْمُوسَى عَلَى رَأْسِهِ مِنْ غَيْرِ حَلْقِ الشَّعْرِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ حلق لَا يَحْلِقُ رَأْسَهُ فَأَمَرَّ الْمُوسَى عَلَى رَأْسِهِ لَمْ يَحْنَثْ، وَإِذَا انْتَفَى عَنْهُ اسْمُ الْحَلْقِ انْتَفَى عَنْهُ حُكْمُ الْحَلْقِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ فَيُسْتَحَبُّ لَهُ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ، لَكِنْ إِنْ كَانَ شَعْرٌ خفي أو زغب غير طاهر أَزَالَهُ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ شَعْرِ لِحْيَتِهِ وَشَارِبِهِ، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ، كَمَا يُسْتَحَبُّ لِلْأَقْطَعِ الْيَدِ مِنَ الْمِرْفَقِ أَنْ يَمَسَّ مَوْضِعَهُ بالماء، وإن لم يجب عليه ليكون خلقاً مِمَّا فَاتَ، وَمَنَعَ ابْنُ دَاوُدَ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَ بِإِعْفَاءِ اللِّحْيَةِ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ رِوَايَةُ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَ الْحَالِقَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ لِحْيَتِهِ طُولًا وَعَرْضًا، فَلَوْ كَانَ عَلَى رَأْسِهِ شَعْرَةٌ وَاحِدَةٌ أَوْ زَغَبُهُ طَاهِرٌ لَزِمَهُ حَلْقُهُ كَمَا لَوْ كَانَ شَعْرُهُ بَاقِيًا.
فَصْلٌ
: وَإِنْ لَمْ يَحْلِقْ وَأَرَادَ التَّقْصِيرَ أَخَذَ مِنْ شِعْرِهِ مِمَّا عَلَا المشط وكيف ما أَخَذَهُ بِمِقْرَاضٍ أَوْ غَيْرِهِ أَوْ قَطَعَهُ بِيَدِهِ أَوْ قَرَضَهُ بِسِنِّهِ أَجْزَأَهُ، فَلَوْ كَانَ شَعْرُهُ مُسْتَرْسِلًا عَنْ حَدِّ الرَّأْسِ أَجْزَأَهُ التَّقْصِيرُ مِنْ أطرافه وإن لم يحاذي بَشَرَةَ الرَّأْسِ وَلَا يُجْزِئُهُ أَنْ يَمْسَحَ عَلَيْهِ في الوضوء إلا أن يحاذي بشرة الرَّأْسِ، وَهَذَا مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ جَمَعَ بَيْنَ التَّقْصِيرِ وَالْمَسْحِ فَقَالَ: لَا يُجْزِئُ إِلَّا بِتَقْصِيرِ مَا لَمْ يَخْرُجْ عَنْ حَدِّ الرَّأْسِ، كَمَا لَا يُجْزِئُ إِلَّا مَسْحُ مَا لَمْ يَخْرُجْ عَنْ حَدِّ الرَّأْسِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَاضِحٌ، وَهُوَ أَنَّ فَرْضَ الْمَسْحِ مُتَعَلِّقٌ بِالرَّأْسِ فَلَمْ يُجْزِ فِيمَا خَرَجَ عَنْ حَدِّ الرَّأْسِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِرَأْسٍ، وَحُكْمُ الْحَلْقِ مُتَعَلِّقٌ بِشَعْرِ الرَّأْسِ فَجَازَ فِيمَا خَرَجَ عَنْ حَدِّ الرَّأْسِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ شَعْرِ الرَّأْسِ، وَأَقَلُّ مَا يُجْزِئُهُ فِي الْحَلْقِ وَالتَّقْصِيرِ أَنْ يَحْلِقَ أَوْ يُقَصِّرَ ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ فَصَاعِدًا، فَأَمَّا دُونَ الثَّلَاثِ فَلَا يُجْزِئُهُ لِأَنَّ اسْمَ الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ.
: فَإِذَا حَلَقَ الْمُعْتَمِرُ بَعْدَ طَوَافِهِ وَسَعْيِهِ أَوْ قَصَّرَ فَقَدْ حَلَّ مِنْ إِحْرَامِهِ وَإِنْ أَرَادَ الْحَجَّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute