للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عَطَايَاهُ فِي الصِّحَّةِ وَرَدِّهَا فِي الْمَرَضِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْإِقْرَارُ فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ مُقَدَّمًا عَلَى الْإِقْرَارِ فِي حَالِ الْمَرَضِ، وَلِأَنَّ دُيُونَ الْغُرَمَاءِ تَصِيرُ بِالْمَرَضِ مُتَعَلِّقَةً بِعَيْنِ الْمَالِ لِمَنْعِهِ مِنْ هِبَتِهِ فَصَارَ إِقْرَارُهُ فِي مَرَضِهِ بَعْدَ تَعَلُّقِ دُيُونِ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ بِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُسَاوِيَهُمْ فِيهِ، وَلِأَنَّ الْمَرَضَ قَدْ أَوْقَعَ عَلَيْهِ فِي التَّصَرُّفِ حَجْرًا وَالْإِقْرَارُ قَبْلَ الْحَجْرِ مُقَدَّمًا عَلَى الْإِقْرَارِ بَعْدَهُ.

وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ كُلَّ إِقْرَارٍ نَفَذَ فِي جَمِيعِ الْمَالِ كَانَ لُزُومُهُ فِي الْمَرَضِ وَالصِّحَّةِ سَوَاءً. أَصْلُهُ إِذَا أَقَرَّ بِثَمَنِ سِلْعَةٍ فِي يَدِهِ أَوْ بِمَهْرٍ لِزَوْجَتِهِ، وَلِأَنَّهُ قَوْلٌ يَلْزَمُ بِهِ الْخُرُوجُ مِنَ الْحَقِّ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ فِي الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ كَالشَّهَادَةِ، وَلِأَنَّ كُلَّ حَقٍّ يَسْتَوِي حُكْمُهُ فِي الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ إِذَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ وَجَبَ أَنْ يستوي حكمه في الصحة والمرض إذا ثبت بِالْإِقْرَارِ قِيَاسًا عَلَى الْإِقْرَارِ بِالنَّسَبِ، وَلِأَنَّ كُلَّ حَالٍ يَسْتَوِي فِيهِمَا ثُبُوتُ النَّسَبِ بِالْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ فِيهَا ثُبُوتُ الدَّيْنِ بِالْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ كَالصِّحَّةِ، وَلِأَنَّ الْمَرَضَ لَا يُحْدِثُ حَجْرًا فِي الْإِقْرَارِ بِدَلَالَةِ نُفُوذِهِ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ فِيهِ حَالُ الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ.

فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِقُوَّةِ تَصَرُّفِهِ فِي الصِّحَّةِ عَلَى تَصَرُّفِهِ فِي الْمَرَضِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: فَسَادُهُ لِمَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ حَيْثُ اسْتَوَى فِيهِ حَالُ الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُسَلَّمٌ فِي الْعَطَايَا الَّتِي لِلْوَرَثَةِ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهَا فِيمَا دُونَ الْإِقْرَارِ الَّذِي لَا اعْتِرَاضَ لِلْوَرَثَةِ فِيهِ.

فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ الدُّيُونَ بِالْمَرَضِ تَصِيرُ مُتَعَلِّقَةً بِعَيْنِ الْمَالِ فَهُوَ أَنَّهُ غَيْرُ مُسَلَّمٍ لِأَنَّ تَلَفَ الْمَالِ لَا يُبْطِلُ دُيُونَهُ وَثُبُوتُ غَيْرِ دُيُونِهِمْ بِالْبَيِّنَةِ لَا يَمْنَعُ مِنْ مُشَارَكَتِهِمْ وَإِنَّمَا تَصِيرُ دُيُونُهُمْ بِالْمَوْتِ مُتَعَلِّقَةً بِعَيْنِ الْمَالِ دُونَ الْمَرَضِ.

وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ الْمَرَضَ قَدْ أَوْقَعَ عَلَيْهِ حَجْرًا فَهُوَ أَنَّ حَجْرَ الْمَرَضِ وَاقِعٌ عَلَيْهِ فِي غَيْرِ الْإِقْرَارِ وَالْحَجْرُ فِيمَا سِوَى الْمَرَضِ وَاقِعٌ فِي الْإِقْرَارِ.

فَصْلٌ

: إِذَا ضَاقَ مَالُ الْمَرِيضِ عَنْ قَضَاءِ دُيُونِهِ فَقَدَّمَ بَعْضَ غُرَمَاءِهِ بِدَيْنِهِ فَقَضَاهُ لَمْ يُشْرِكْهُ الْبَاقُونَ فِيهِ، وَقَالَ أبو حنيفة لِبَاقِي الْغُرَمَاءِ مُشَارَكَتُهُ فِيهِ بِالْحِصَصِ لِأَنَّهَا عَطِيَّةٌ فِي الْمَرَضِ فَصَارَ الْحَجْرُ وَاقِعًا عَلَيْهِ فِيهَا.

وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ مَا لَزِمَ قَضَاؤُهُ اسْتَوَى فِيهِ حَالُ الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ قِيَاسًا عَلَيْهِ إِذَا قَضَى ثَمَنَ سِلْعَةٍ فِي يَدِهِ، وَلِأَنَّ مَنْ صَحَّ مِنْهُ الْأَدَاءُ مَعَ وُجُودِ الْوَفَاءِ صَحَّ مِنْهُ الْأَدَاءُ مَعَ الْعَجْزِ كَالصَّحِيحِ طرداً، والصغر عكساً والله أعلم.

<<  <  ج: ص:  >  >>