للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَاجِبًا، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَبْعَثُ أَصْحَابَهُ فِي السَّرَايَا، وَيَأْمُرُهُمْ إِنْ لَمْ يَسْمَعُوا الْأَذَانَ يَشُنُّوا عَلَيْهِمُ الْغَارَةَ، وَإِنْ سَمِعُوا الْأَذَانَ كَفُّوا، وَلَمْ يَشُنُّوا الْغَارَةَ فَصَارَتْ مَنْزِلَةُ الْأَذَانِ فِي مَنْعِ التَّحْرِيمِ مَنْزِلَةَ الْإِيمَانِ، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُذْ شَرَعَ الْأَذَانَ دَاوَمَ عَلَيْهِ لِصَلَوَاتِهِ، وَلَمْ يُرَخِّصْ فِي تَرْكِهِ فِي حَضَرٍ وَلَا سَفَرٍ، وَلَوْ كَانَ غَيْرَ وَاجِبٍ لَأَبَانَ حُكْمَهُ بِالتَّرْكِ لَهُ، وَلَوْ دَفَعَهُ.

وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّ الْأَذَانَ إِنَّمَا ثَبَتَ عَنْ مَشُورَةٍ أَوْقَعَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيْنَ أَصْحَابِهِ حَتَّى تَقَدَّرَ بِرُؤْيَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ عَلَى الْأَذَانِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ صِفَاتِ الْوَاجِبَاتِ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ صِفَاتِ الْمَنْدُوبَاتِ الْمَسْنُونَاتِ، لِأَنَّهُ مَا شَرَّعَ بِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا أَقَرَّهُ عَلَى فِعْلِ غَيْرِهِ فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ مُعَاذًا جَاءَ فَدَخَلَ فِي صَلَاةِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثُمَّ قَامَ فَقَضَى مَا عَلَيْهِ مِنْهَا فَقَالَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إِنَّ مَعَاذًا قَدْ سَنَّ لَكُمْ فَاتَّبِعُوهُ ".

قُلْنَا: هَذَا دَلِيلُنَا لِأَنَّهُ أَمَرَ بِهِ فَصَارَ شَرْعًا بِأَمْرِهِ عَلَى أَنَّ وُجُوبَ قَضَاءِ الْفَوَائِتِ قَدْ عُلِمَ بِالشَّرْعِ قَبْلَ فِعْلِ مُعَاذٍ وَإِنَّمَا مُعَاذٌ أَوَّلُ مَنْ فَعَلَهُ، وَلِأَنَّ الْأَذَانَ لَوْ وَجَبَ لِلصَّلَاةِ وَكَانَ شَرْطًا فِي صِحَّتِهَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ زَمَانُهُ مُسْتَثْنًى مِنْ وَقْتِهَا فَلَمَّا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " بَيْنَ هَذَيْنِ وَقْتٌ " إِشَارَةً إِلَى أَوَّلِ الْوَقْتِ وَآخِرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَثْنِيَ مِنْهُ زَمَانَ الْأَذَانِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي صِحَّتِهَا، وَإِنَّمَا هُوَ سُنَّةٌ لَهَا وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ التَّيَمُّمُ، لِأَنَّهُ حَالُ ضَرُورَةٍ؛ وَلَا يَعُمُّ.

فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْآيَةِ فَهُوَ: أَنَّ السَّعْيَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ بِالنِّدَاءِ لِأَنَّ أَهْلَ الْبَلَدِ يَلْزَمُهُمُ السَّعْيُ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعُوهُ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي الْخَارِجِينَ عَلَى أَنَّ هَذَا يَفْسُدُ بِرَدِّ السَّلَامِ هُوَ وَاجِبٌ، وَلَيْسَ أَصْلُ السَّلَامِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الرَّدِّ وَاجِبًا فَلَمْ يُسَلِّمِ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى أَنَّ الْجُمْعَةَ قَدْ تُفَارِقُ غَيْرَهَا على ما يذكره.

وَأَمَّا أَمْرُهُ بِشَنِّ الْغَارَةِ عَلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْ أَذَانَهُ فَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ أَوَّلَ الْإِسْلَامِ وَدَارُ الشِّرْكِ مُخَالِطَةٌ لِدَارِ الْإِسْلَامِ، فَلَمْ يَكُنْ يَمْتَازُ الْفَرِيقَانِ إِلَّا بِهِ فَأَمَّا الْآنَ فَقَدْ تَمَيَّزُوا فِي الدَّارِ وَاشْتَهَرُوا بِالْإِسْلَامِ فَلَمْ يَتَعَلَّقْ هَذَا الْحُكْمُ بِهِ أَلَا تَرَاهُ قال أيضا: إذا رأيتم مسجد فَلَا تُغِيرُوا وَكُفُّوا، وَلَمْ يَدُلَّ هَذَا عَلَى وُجُوبِ بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ، وَأَمَّا مُلَازَمَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى تَأْكِيدِهِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِهِ كَمَا لَازَمَ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ لِتَأَكُّدِهِمَا لَا لِوُجُوبِهِمَا عَلَى أَنَّهُ قَدْ تَرَكَ الْأَذَانَ فِي السَّفَرِ بِعَرَفَةَ وَفِي الْحَضَرِ عَامَ الْخَنْدَقِ، وَلَمْ يَقْضِهِ، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَقَضَاهُ كَالصِّيَامِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

(فَصْلٌ)

: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ لَيْسَا بِفَرْضٍ عَلَى الْأَعْيَانِ فَقَدْ ذَهَبَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ إِلَى أَنَّهُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَغُسْلِ الْمَوْتَى وَرَدِّ السَّلَامِ فَإِذَا قام به

<<  <  ج: ص:  >  >>