للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

" فِجَاجُ مَكَّةَ كُلُّهَا طُرُقٌ وَمَنْحَرٌ " فَخَصَّ النَّحْرَ بِمَوْضِعٍ مَخْصُوصٍ، فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي غَيْرِهِ، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ مَقْصُودَيِ الْهَدْيِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُجْزِئَ إِلَّا فِي الْحَرَمِ كَالتَّفْرِقَةِ، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ حُصُولِ التَّفْرِقَةِ فِي أَهْلِ الْحَرَمِ فَفَاسِدٌ بِمَنِ اشْتَرَى لِحَمًا وَفَرَّقَهُ فِي أَهْلِ الْحَرَمِ، فَعَلِمَ أَنَّ الْإِرَاقَةَ مَقْصُودَةٌ مَعَ التَّفْرِقَةِ.

فَصْلٌ

: فَأَمَّا الطَّعَامُ فَالْحُكْمُ فِيهِ كَالْحُكْمِ فِي الْهَدْيِ لَا يُجْزِئُهُ إِلَّا فِي الْحَرَمِ، وَقَالَ أبو حنيفة: يُجْزِئُ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ، وَالْكَلَامُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ وَاحِدٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالطَّعَامُ الْوَاجِبُ فِي الْفِدْيَةِ عَلَى ضَرْبَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَنْصُوصًا عَلَى قَدْرِهِ وَعَدَدِ مُسْتَحِقِّيهِ وَذَلِكَ فِدْيَةُ الْأَذَى، وَهُوَ إِطْعَامُ ثَلَاثَةِ آصُعٍ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدَّانِ، وَهُوَ أَعْلَى الْإِطْعَامِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي الْكَفَّارَاتِ، وَقَدْ سَمَّاهَا الشَّافِعِيُّ فِي الْإِمْلَاءِ فِدْيَةَ تَعَبُّدٍ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ قَدْ تُعُبِّدَ بِقِدْرِ الطَّعَامِ وَأَعْدَادِ الْمَسَاكِينِ، فَإِذَا دَفَعَ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ آصُعٍ إِلَى سِتَّةِ مَسَاكِينَ لَمْ يُجْزِهِ؛ لِنُقْصَانِ الْقَدْرِ، وَإِنْ دَفَعَ ثَلَاثَةَ آصُعٍ إِلَى أَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ مَسَاكِينَ لَمْ يُجْزِهِ، لِنُقْصَانِ الْعَدَدِ.

وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ مَنْصُوصًا عَلَى قَدْرِهِ وَلَا عَلَى عَدَدِ مستحقه، وَذَلِكَ جَزَاءُ الصَّيْدِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنَ الكفارات التَّعْدِيلِ، وَقَدْ سَمَّاهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْإِمْلَاءِ فِدْيَةَ بدل، كالأثمان تنخفض وترتفع؛ لأنه لا يَتَقَدَّرُ الطَّعَامُ فِيهَا إِلَّا بِتَقْوِيمِ الْهَدْيِ وَصَرْفِ ثَمَنِهِ فِي الطَّعَامِ، فَرُبَّمَا كَثُرَ الطَّعَامُ إِمَّا لِكَثْرَةِ قِيمَةِ الْهَدْيِ، أَوْ لِقِلَّةِ ثَمَنِ الطَّعَامِ، وَرُبَّمَا قَلَّ الطَّعَامُ إِمَّا لِقِلَّةِ قِيمَةِ الْهَدْيِ، أَوْ لِكَثْرَةِ ثَمَنِ الطَّعَامِ، ثُمَّ يَتَقَدَّرُ حِينَئِذٍ بذلك فيصير كالمقدر شرعاً، فأما أعداد مستحقه فَهَلْ مَخْصُوصٌ بِعَدَدٍ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ فِيمَا يُدْفَعُ إِلَى كل مسكين.

فأما الْوَجْهَيْنِ: أَنَّهُ يُدْفَعُ إِلَى كُلِّ مِسْكِينٍ مُدٌّ، لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ وَلَا النُّقْصَانُ مِنْهُ فَعَلَى هَذَا يَنْحَصِرُ عَدَدُهُمْ بِعَدَدِ الْأَمْدَادِ؛ فَإِنْ كَانَتِ الْأَمْدَادُ عَشَرَةً وَجَبَ دَفْعُهَا إِلَى عَشَرَةِ مَسَاكِينَ، لَا يَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِمْ وَلَا النُّقْصَانُ مِنْهُمْ، وَصَارُوا كَالْعَدَدِ الْمُقَدَّرِ شَرْعًا؛ فَلَوْ كَانَ فَوْقَ الْأَمْدَادِ كَسْرٌ وَجَبَ دَفْعُ الْكَسْرِ إِلَى مِسْكِينٍ آخَرَ.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ كُلَّ مَا يدفع إلى كل مسكين غير مقدم كَلَحْمِ الْهَدْيِ، فَعَلَى هَذَا عَدَدُ الْمَسَاكِينِ غَيْرُ مَحْصُورٍ، وَلَكِنْ إِنْ كَانَ ذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَمْدَادٍ فَصَاعِدًا لَمْ يَجُزْ دَفْعُهَا إِلَى أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ مَسَاكِينَ؛ لِأَنَّهُمْ أَقَلُّ الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُدَّيْنِ لَمْ يَجُزْ دَفْعُهَا إِلَى أَقَلَّ مِنْ مِسْكِينٍ، وَيَجُوزُ دَفْعُهَا إِلَى مِسْكِينَيْنِ؛ لِأَنَّ أَقَلَّ مَا يُوَاسَى بِهِ كُلُّ مِسْكِينٍ مَدٌّ، فَإِنْ دَفَعَ ذَلِكَ إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاكِينَ أَجْزَأَ؛ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُدًّا وَاحِدًا جَازَ أَنْ يَصْرِفَهُ إِلَى مِسْكِينٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ صَرَفَهُ إِلَى مِسْكِينَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةِ مَسَاكِينَ أَجْزَأَهُ، وَيُسْتَحَبُّ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنْ لَا يَنْقُصَ الْمِسْكِينَ الْوَاحِدَ عَنْ مُدٍّ؛ لِأَنَّهُ أَقَلُّ مَا يُوَاسَى بِهِ، وَلَا يَزِيدُهُ عَلَى مُدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ مَا يُوَاسَى بِهِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>