للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَلَيْسَ لِهَذَيْنِ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ فَكَانَ إِجْمَاعًا.

وَلِأَنَّ الْوَلِيَّ يَقُومُ فِي مَالِ الْيَتِيمِ مَقَامَ الْبَالِغِ الرَّشِيدِ فِي مَالِ نَفْسِهِ فَلَمَّا كَانَ مِنْ أَفْعَالِ الرَّشِيدِ أَنْ يَتَّجِرَ بِمَالِهِ كَانَ الْوَلِيُّ فِي مَالِ الْيَتِيمِ مَنْدُوبًا إِلَى أَنْ يَتَّجِرَ بِمَالِهِ. وَلِأَنَّ الْوَلِيَّ مَنْدُوبٌ إِلَى أَنْ يُثْمِرَ مَالُهُ مَنْ يَلِي عَلَيْهِ، وَالتِّجَارَةُ مِنْ أَقْوَى الْأَسْبَابِ فِي تَثْمِيرِ الْمَالِ فَكَانَ الْوَلِيُّ بِهَا أَوْلَى.

فَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: ١٥٢] فَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَأْوِيلِهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ: فَمَذْهَبُ ابْن أَبِي لَيْلَى خَارِجٌ مِنْهَا وَمَذْهَبُنَا دَاخِلٌ فِيهَا.

أَحَدُهَا: أَنَّ الَّتِي هِيَ أحسن التجارة وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ.

وَالثَّانِي: أَنْ يَتَّجِرَ لَهُ وَلَا يَأْخُذَ مِنَ الرِّبْحِ شَيْئًا وَهَذَا قَوْلُ الضَّحَّاكِ.

وَالثَّالِثُ: أَنَّ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أَنْ يَأْكُلَ بِالْمَعْرُوفِ إِنِ افْتَقَرَ وَيُمْسِكَ عَنِ الْأَكْلِ إِنِ اسْتَغْنَى وَهَذَا قَوْلُ ابْن زَيْدٍ.

وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ إِنِ التِّجَارَةَ خَطَرٌ وَالرِّبْحَ مُتَوَهَّمٌ فَهُوَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ سَلَامَةَ الْمَالِ فِي أَحْوَالِ السَّلَامَةِ أَغْلَبُ، وَظُهُورُ الرِّبْحِ مَعَ اسْتِقَامَةِ الْأُمُورِ أَظْهَرُ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ فِي هَذَيْنِ غَالِبًا جَازَ الْعَمَلُ عَلَيْهِ لِعَدَمِ الْيَقِينِ فِيهِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهُ كَالْمُودِعِ فِي اخْتِصَاصِهِ بِالْحِفْظِ فَخَطَأٌ لِأَنَّ الْمُودِعَ نَائِبٌ عَنْ جَائِزِ الْأَمْرِ فَكَانَ تَصَرُّفُهُ مَوْقُوفًا عَلَى إِذْنِهِ، وَالْوَلِيُّ نَائِبٌ عَامُّ التَّصَرُّفِ، أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُ الْإِنْفَاقَ عَلَيْهِ وَشِرَاءَ الْعَقَارِ لَهُ.

فَصْلٌ:

فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ التِّجَارَةِ بِمَالِهِ فَإِنَّمَا يَتَّجِرُ بِمَا كَانَ نَاضًّا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَبِيعَ عَقَارًا وَلَا أَرْضًا، فَأَوَّلُ مَا يَنْبَغِي لِلْوَلِيِّ أَنْ يَفْعَلَ بِالنَّاضِّ مِنْ مَالِهِ بَعْدَ كُسْوَتِهِ وَنَفَقَتِهِ أَنْ يُعَمِّرَ مَا يَحْتَاجُ إِلَى الْعِمَارَةِ مِنْ عَقَارِهِ أَوْ ضِيَاعِهِ إِذَا كَانَ فِي عِمَارَتِهَا حِفْظُ الْأَصْلِ. وَلَيْسَ لِمَا يَبْنِي بِهِ الْعَقَارَ مِنَ الْآلَةِ صِفَةٌ مُحَدَّدَةٌ وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْمُتَأَخِّرِينَ يَحُدُّ ذَلِكَ فَيَقُولُ: يَجِبُ أَنْ يَبْنِيَ بِالْآجُرِّ وَالطِّينِ وَلَا يَبْنِيَهُ بِالْآجُرِّ وَالْجِصِّ وَلَا بِاللَّبِنِ وَالطِّينِ.

قَالَ: لِأَنَّ لِلْآجُرِّ وَالطِّينِ مَرْجُوعًا إِنْ هُدِمَ وَبَقَاءٌ إِنْ تُرِكَ، وَالْجِصُّ فِي الْآجُرِّ لَا مَرْجُوعَ لَهُ وَإِذَا انْهَدَمَ بَعْضُهُ خَرِبَ جَمِيعُهُ، وَاللَّبِنُ وَالطِّينُ قَلِيلُ الْبَقَاءِ. وَلَيْسَ لِهَذَا التَّحْدِيدِ وَجْهٌ صَحِيحٌ لِأَنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عُرْفًا وَلِكُلِّ بَلَدٍ عَادَةً، فَمِنَ الْبِلَادِ مَا لَا يَسْتَحْكِمُ الْبِنَاءُ فِيهِ إِلَّا بِالْحِجَارَةِ وَالنَّوْرَةِ، وَمِنْهَا بِالْآجُرِّ وَالْجِصِّ، وَمِنْهَا بِالْآجُرِّ وَالطِّينِ، وَمِنْهَا بِاللَّبِنِ وَالطِّينِ، وَمِنْهَا بِالْخَشَبِ الْوَثِيقِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>