وَمِثْلُهُ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: لَا تَسْتَضِيئُوا بِنَارِ أَهْلِ الشِّرْكِ " أَيْ لَا تَقْتَدُوا بِآرَائِهِمْ.
وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ: أَنْ لَا يَقْدِرَ عَلَى الِامْتِنَاعِ وَيَضْعُفَ عَنِ الْهِجْرَةِ فَتَسْقُطَ عَنْهُ الْهِجْرَةِ، لِعَجْزِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ بِإِظْهَارِ الْكُفْرِ، وَيَكُونَ مُسْلِمًا بِاعْتِقَادِ الْإِسْلَامِ وَالْتِزَامِ أَحْكَامِهِ، وَلَا يَجُوزُ لِمَنْ قَدَرَ عَلَى الْهِجْرَةِ أَنْ يَتَظَاهَرَ بِالْكُفْرِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُضْطَرٍّ وَالْعَاجِزُ عَنِ الْهِجْرَةِ مُضْطَرٌّ، وَيَكُونُ فَرْضُ الْهِجْرَةِ عَلَى مَنْ آمَنَ فِيهَا بَاقِيًا مَا بَقِيَ لِلشِّرْكِ دَارٌ.
رَوَى مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " لَا تَنَقطِعُ الْهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ، وَلَا تَنَقَطِعُ التَّوْبَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا ".
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رَوَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: " لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْيَوْمِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ ".
قِيلَ: فِي تَأْوِيلِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا هِجْرَةَ مِنْ مَكَّةَ بَعْدَ الْيَوْمِ، لِأَنَّهَا قَدْ صَارَتْ بَعْدَ الْفَتْحِ دَارَ إِسْلَامٍ.
الثَّانِي: لَا فَضِيلَةَ لِلْهِجْرَةِ بَعْدَ الْيَوْمِ كَفَضِيلَتِهَا قَبْلَ الْيَوْمِ، لِأَنَّهَا كَانَتْ قَبْلَ الْفَتْحِ أَشَقَّ مِنْهَا بَعْدَهُ فَكَانَ فَضْلُهَا أَكْثَرَ مِنْ فَضْلِهَا بَعْدَهُ.
وَفِي تَسْمِيَتِهَا هِجْرَةً وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لِأَنَّهُ يَهْجُرُ فِيهَا مَا أَلِفَ مِنْ وَطَنٍ وَأَهْلٍ.
وَالثَّانِي: لِأَنَّهُ يَهْجُرُ فِيهَا الْعَادَةَ مِنْ عَمَلٍ أَوْ كَسْبٍ.
(فَصْلٌ)
: وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي فَرْضِ الْجِهَادِ فَلِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيهِ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: وَهِيَ أَوَّلُ أَحْوَالِهِ، أَنَّهُ قَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُدَّةَ مَقَامِهِ بِمَكَّةَ مَنْهِيًّا عَنِ الْقِتَالِ، مَأْمُورًا بِالصَّفْحِ وَالْإِعْرَاضِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر: ٩٤] . فِيهِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَظْهِرِ الْإِنْذَارَ بِالْوَحْيِ.
وَالثَّانِي: فَرِّقِ الْقَوْلَ فِيهِمْ مُجْتَمِعِينَ وَفُرَادَى.
وَفِي قَوْلِهِ: {وَأَعْرِضْ عَنِ المشركين} تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَعْرِضْ عَنْ قِتَالِهِمْ.