وَأَبَاحَ مَالِكٌ أَكْلَ جَمِيعِهِ، وَكَرِهَ الْحَيَّةَ، وَلَمْ يُحَرِّمْهَا، وَكَذَلِكَ الْفَأْرَةَ وَالْغُرَابَ، وَفِيمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الدَّلِيلِ مَعَهُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ مَقْنَعٌ، وَسَوَاءٌ فِي تَحْرِيمِ الدِّيدَانِ مَا تَوَّلَدَ فِي الطَّعَامِ أَوْ فِي الْأَرْضِ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ أَبَاحَ أَكْلَ مَا تَوَلَّدَ فِي الطَّعَامِ، وَحَرَّمَ أَكْلَ مَا تَوَّلَدَ فِي الْأَرْضِ، وَكِلَاهُمَا مُسْتَخْبَثٌ، فَاسْتَوَيَا.
وَهَكَذَا الذُّبَابُ وَالزَّنَابِيرُ، وَسَوَاءٌ كَانَ مِنْ زَنَابِيرِ الْعَسَلِ وَغَيْرِهَا. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ عَسَلُهَا مَأْكُولًا، فَهَلَّا كَانَ أَكْلُهَا حَلَالًا؟
قِيلَ: هِيَ مُسْتَخْبَثَةٌ وَمُؤْذِيَةٌ، وَلَيْسَ يُمْتَنَعُ أَنْ يَحْرُمَ أَكْلُهَا، وَإِنْ حَلَّ عَسَلُهَا كَأَلْبَانِ النِّسَاءِ فِي إِبَاحَةِ شُرْبِهِ مَعَ تَحْرِيمِ لُحُومِهِنَّ فَأَمَّا مَا يَحِلُّ أَكْلُهُ، فَيَكْثُرُ تَعْدَادُهُ، وَهُوَ مَا يَمْنَعُ الْحَرَمُ وَالْإِحْرَامُ مِنْ قَتْلِهِ وَفِيهِ إِذَا أَصَابَهُ الْمُحْرِمُ الْجَزَاءُ إِلَّا يَسْمَعَ.
وَمَا تَوَّلَدَ مِنْ بَيْنِ مَأْكُولٍ وَغَيْرِ مَأْكُولٍ، فَإِنَّهُ لَا يُؤْكَلُ، وَيَجِبُ فِيهِ الْجَزَاءُ، تَغْلِيبًا لِلْحَظْرِ فِي الْأَمْرَيْنِ.
وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ الْقَاصِّ: لَا جَزَاءَ فِيهِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْكُولٍ، وَوَهِمَ فِيهِ، لِأَنَّ تَغْلِيبَ الْحَظْرِ مُوجِبُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(فَصْلٌ:)
رَوَى مُجَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " نَهَى عَنْ أَكْلِ الْجَلَّالَةِ وَأَلْبَانِهَا " وَرَوَى نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " نَهَى عَنِ الْجَلَّالَةِ وَالْمُجَثَّمَةِ وَعَنِ الْمَصْبُورَةِ ".
فَأَمَّا الجلالة فهي التي ترعى الحلة، وَهِيَ الْبَعْرُ وَالْعَذِرَةُ، فَحَمَلَ بَعْضُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ النَّهْيَ عَلَى التَّحْرِيمِ، وَبِهِ قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ.
وَعِنْدِي إنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْكَرَاهَةِ دُونَ التَّحْرِيمِ، لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْهَا وَارِدٌ، لِأَجْلِ مَا تَأْكُلُهُ مِنَ الْأَنْجَاسِ، وَهِيَ تِغْتَذِيهِ فِي كِرْشِهَا، وَالْعَلْفُ الطَّاهِرُ يَنْجُسُ فِي الْكِرْشِ، فَسَاوَى فِي حُصُولِهِ مِنْهُ حَالَ النَّجَسِ، وَلِأَنَّ لُحُومَ مَا تَرْعَى الْأَنْجَاسَ نَتِنٌ، وَأَكْلُ اللَّحْمِ إِذَا نَتِنَ يَحْرُمُ وَإِذَا كَانَ هَكَذَا فَكُلَّمَا كَانَ أَكْثَرُ غِذَائِهِ رَعْيَ الْأَنْجَاسِ كَانَ أَكْلُ لَحَمِهِ وَشُرْبُ لَبَنِهِ مَكْرُوهًا.
فَأَمَّا رُكُوبُهُ، فَيُكْرَهُ إِذَا كَانَ عُرْيًا لِنَتَنِ عَرَقِهِ، وَلَا يُكْرَهُ إِذَا كَانَ مُوَكَّفًا أَوْ مُسَرَّجًا، فَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ مَا يَغْتَذِيهِ طَاهِرًا، وَإِنِ اغْتَذَى فِي بَعْضِهَا نَجِسًا لَمْ يُكْرَهِ اعْتِبَارًا بِالْأَغْلَبِ، وَيُخْتَارُ فِي الْجَلَّالَةِ إِذَا أُرِيدَ شُرْبُ لَبَنِهَا أَوْ أَكْلُ لَحْمِهَا أَنْ تُحْبَسَ عَنِ الْأَقْذَارِ بِالْعَلَفِ الطَّاهِرِ فِي الْبَعِيرِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَفِي الْبَقَرَةِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَفِي الشَّاةِ سَبْعَةَ أَيَّامٍ، وَفِي الدَّجَاجَةِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْمَقَادِيرُ تَوْقِيفًا لَا يُزَادُ عَلَيْهِ، وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ زَوَالُ مَا أَنْتَنَ مِنْ أَبْدَانِهَا، وَالْأَغْلَبُ أَنَّهَا تَزُولُ بِهَذِهِ الْمَقَادِيرِ، فَإِنْ زَالَتْ بِأَقَلَّ مِنْهَا زَالَتِ الْكَرَاهَةُ وَإِنْ لَمْ تَزَلْ فِيهَا بَقِيَتِ الْكَرَاهَةُ حَتَّى تَزُولَ مِمَّا زَادَ عَلَيْهَا، فإن أكل