الْجِزْيَةَ عِوَضٌ عَنْ حَقْنِ دَمِهِ، وَإِقْرَارِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ عَلَى كُفْرِهِ فَلَمْ يَسْقُطْ مَا وَجَبَ مِنْهَا بِمَوْتِهِ كَالْأُجُورِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اعْتِبَارِهِمْ بِالْحُدُودِ، فَهُوَ أَنَّ الْحَدَّ مُتَعَلِّقٌ بِالْبَدَنِ، فَسَقَطَ بِالْمَوْتِ كَالْقِصَاصِ، وَالْجِزْيَةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمَالِ، فَلَمْ تَسْقُطْ بِالْمَوْتِ كَالدِّيَةِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِخُرُوجِهِ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ، فَهُوَ أَنَّهَا تُؤْخَذُ عَلَى مَا مَضَى فِي حَيَاتِهِ، وَقَدْ كَانَ فِيهِ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ.
فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ وَالْفَلَسِ، كَانَتْ كَالدُّيُونِ الْمُسْتَقِرَّةِ تُقَدَّمُ عَلَى الْوَصَايَا، وَالْوَرَثَةِ، وَيُسَاهِمُ فِيهَا الْغُرَمَاءُ بِالْحِصَصِ، وَيَكُونُ مَا عَجَزَ الْمَالُ عَنْهَا دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْمُفْلِسِ، وَثَابِتًا عَلَى الْمَيِّتِ.
وَهَكَذَا لَوْ زَمِنَ أَوْ عَمِيَ أَوْ جُنَّ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ، وَأَسْقَطَهَا أَبُو حَنِيفَةَ عَنْهُ، وَدَلِيلُهُ ما قدمناه.
[(مسألة)]
: قال الشافعي: " وَإِنْ أَسْلَمَ وَقَدْ مَضَى بَعْضُ السَّنَةِ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَا مَضَى مِنْهَا "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا أَسْلَمَ الذِّمِّيُّ بَعْدَ وُجُوبِ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِ لَمْ تَسْقُطْ بِإِسْلَامِهِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَسْقُطُ عَنْهُ بِإِسْلَامِهِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: ٢٩] . وَالْمُسْلِمُ لَا صَغَارَ عَلَيْهِ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: ٣٨] . وَقَدِ انْتَهَى بِالْإِسْلَامِ، فَوَجَبَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ مَا سَلَفَ مِنَ الْجِزْيَةِ.
وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ
الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ.
وَبِمَا رَوَى مُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ
لَا جِزْيَةَ عَلَى مُسْلِمٍ
، وَهَذَا نَصٌّ.
وَمِنَ الْقِيَاسِ: أَنَّهَا عُقُوبَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالْكُفْرِ، فَوَجَبَ أَنْ تَسْقُطَ بِالْإِسْلَامِ كَالْقِتَالِ.
وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ مِنْهُ صَغَارًا وَذِلَّةً، وَالْمُسْلِمُ لَا صَغَارَ عَلَيْهِ، فَوَجَبَ سُقُوطُهَا عَنْهُ.
وَدَلِيلُنَا: قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
الزَّعِيمُ غَارِمٌ
وَقَدْ ضَمِنَهَا، فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ غرمها.