وَمِنَ الْقِيَاسِ: أَنَّهُ مَالٌ اسْتَقَرَّ ثُبُوتُهُ فِي ذِمَّتِهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْقُطَ بِإِسْلَامِهِ كَالدُّيُونِ
فَإِنْ قِيلَ: يَبْطُلُ بِالزَّوْجَيْنِ الْوَثَنِيَّيْنِ إِذَا أَسْلَمَ الزَّوْجُ مِنْهُمَا قَبْلَ الدُّخُولِ سَقَطَ عَنْهُ صَدَاقُهَا بِإِسْلَامِهِ.
قِيلَ: صَدَاقُهَا إِنَّمَا بَطَلَ بِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ كَمَا يَبْطُلُ صَدَاقُهَا بِالرِّدَّةِ، لِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ تَكَلَّمَ فِي صَلَاتِهِ، فَبَطَلَتْ بِكَلَامِهِ حَلَّ لَهُ الْكَلَامُ بِبُطْلَانِ الصَّلَاةِ لَا بِالْكَلَامِ؟
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الدَّيْنُ بِإِسْلَامِهِ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ ابْتِدَاؤُهُ فِي إِسْلَامِهِ، وَسَقَطَتِ الْجِزْيَةُ بِإِسْلَامِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ ابْتِدَاؤُهَا فِي إِسْلَامِهِ.
فَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّهُ تَبْطُلُ عِلَّةُ الْأَصْلِ بِالْمَوْتِ، لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنِ ابْتِدَاءِ الدِّينِ، وَلَا يَمْنَعُ مِنِ اسْتَدَامَتِهِ، وَتُبْطُلُ عِلَّةُ الْفَرْعِ بِالِاسْتِرْقَاقِ، وَيَمْنَعُ الْإِسْلَامُ مِنِ ابْتِدَائِهِ، وَلَا يَمْنَعُ مِنِ اسْتَدَامَتِهِ، وَلِأَنَّ الجزية والخراج مستحقان بالكفر، لما لَمْ يَسْقُطْ بِالْإِسْلَامِ مَا وَجَبَ مِنَ الْخَرَاجِ لَمْ يَسْقُطْ بِهِ مَا وَجَبَ مِنَ الْجِزْيَةِ.
وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا، أَنَّهُ مَالٌ مُسْتَحَقٌّ بِالْكُفْرِ، فَلَمْ يَسْقُطْ مَا وَجَبَ مِنْهُ بِالْإِسْلَامِ كَالْخَرَاجِ، وَعَبَّرَ عَنْهُ بَعْضُ أَهْلِ خُرَاسَانَ بِأَنَّ مَا وَجَبَ عَلَى الْكَافِرِ بِالِالْتِزَامِ لَمْ يَسْقُطْ بِالْإِسْلَامِ كَالْخَرَاجِ، وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ مُعَاوَضَةٌ عَنْ حَقْنِ الدَّمِ وَالْمُسَاكَنَةِ، فَلَمْ يَسْقُطْ مَا وَجَبَ مِنْهَا بِالْإِسْلَامِ كَالْأُجْرَةِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْله تَعَالَى {وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة ٢٩] . فَهُوَ أَنَّ الصَّغَارَ عِلَّةٌ فِي الْوُجُوبِ دُونَ الْأَدَاءِ، وَوُجُوبُهَا يَسْقُطُ بِالْإِسْلَامِ، وَأَدَاؤُهَا لَا يَسْقُطُ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْله تَعَالَى: {يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: ٣٨] فَهُوَ أَنَّ الْغُفْرَانَ مُخْتَصٌّ بِالْآثَامِ دُونَ الْحُقُوقِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ
فَهُوَ أَنَّهُ يَقْطَعُ وُجُوبَ مَا قَبْلَهُ، وَلَا يَرْفَعُ مَا وَجَبَ مِنْهُ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ:
لَا جِزْيَةَ عَلَى مُسْلِمٍ
فَهُوَ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى ابْتِدَاءِ
الْوُجُوبِ دُونَ الِاسْتِيفَاءِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْقَتْلِ، فَهُوَ أَنَّ الْجِزْيَةَ مُعَاوَضَةٌ، وَلَيْسَتْ عُقُوبَةً، ثُمَّ هُوَ مُنْتَقِضٌ بِالِاسْتِرْقَاقِ لَا يَبْطُلُ بِالْإِسْلَامِ، وَإِنْ وَجَبَ بِالْكُفْرِ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْقَتْلِ أَنَّهُ وَجَبَ بِالْإِصْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ، وَقَدْ زَالَ الْإِصْرَارُ بِالْإِسْلَامِ، فَلِذَلِكَ سَقَطَ، وَالْجِزْيَةُ وَجَبَتْ مفاوضة عَنِ الْمُسَاكَنَةِ، وَتِلْكَ الْمُسَاكَنَةُ لَمْ تَنْزِلْ، فَلَمْ تسقط بالإسلام.