للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَلِأَنَّ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى مَوْضُوعَةٌ عَلَى التَّخْفِيفِ وَالْمُسَامَحَةِ لِإِسْقَاطِهَا بِالشُّبْهَةِ.

وَاسْتَدَلَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ مَا عَلِمَهُ قَبْلَ الْوِلَايَةِ وَبَعْدَهَا، بِأَنَّ حُكْمَهُ بِعِلْمِهِ كَحُكْمِهِ بِالشَّهَادَةِ فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْكُمَ بِمَا سَمِعَهُ مِنَ الشَّهَادَةِ قَبْلَ الْمُحَاكَمَةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِهِ قَبْلَ الْوِلَايَةِ، وَلِأَنَّ عِلْمَهُ قَبْلَ الْوِلَايَةِ عِلْمُ شَهَادَةٍ وَبَعْدَهَا عِلْمُ حُكْمٍ فَجَازَ أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِ الْحُكْمِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِ الشَّهَادَةِ.

وَالدَّلِيلُ عَلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ مَا قَبْلَ الْوِلَايَةِ وَبَعْدَهَا: أَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَحْكُمَ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ بِعِلْمِهِ قَبْلَ الْوِلَايَةِ وَبَعْدَهَا وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْكُمَ فِي الْحُدُودِ بِعِلْمِهِ قَبْلَ الْوِلَايَةِ وَبَعْدَهَا، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا عَدَاهُمَا مُعْتَبَرًا بِهِمَا، إِنْ جَازَ الْحُكْمُ فِيهِ بِالْعِلْمِ اسْتَوَى مَا عَلِمَهُ قَبْلَ الْوِلَايَةِ وَبَعْدَهَا كَالْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْكُمَ فِيهِ بِالْعِلْمِ اسْتَوَى مَا عَلِمَهُ قَبْلَ الْوِلَايَةِ وَبَعْدَهَا كَالْحُدُودِ فَبَطَلَ بِهَذَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْعِلْمَيْنِ.

فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِسَمَاعِ الْبَيِّنَةِ فَهُوَ أَنَّ سَمَاعَ الْبَيِّنَةِ لَا يَجُوزُ إِلَّا بَعْدَ التَّحَاكُمِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ بِمَا عَلِمَهُ قَبْلَ التَّحَاكُمِ فَافْتَرَقَا.

وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِأَنَّ عِلْمَهُ قَبْلَ الْوِلَايَةِ عِلْمُ شَهَادَةٍ وَبَعْدَهَا عِلْمُ حُكْمٍ، فَهُوَ أَنَّ عِلْمَ الشَّهَادَةِ قَبْلَ الْوِلَايَةِ يَصِيرُ عِلْمَ حكم بعد الولاية.

[(فصل: شروط نفوذ حكم القاضي بعلمه) .]

فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَوْجِيهِ الْقَوْلَيْنِ وَإِبْطَالِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْعِلْمَيْنِ فَإِنْ قِيلَ بِجَوَازِ حُكْمِهِ بِعِلْمِهِ وَهُوَ أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ كَانَ نُفُوذُ حُكْمِهِ بِعِلْمِهِ مُعْتَبَرًا بِشَرْطَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقُولَ لِلْمُنْكِرِ قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ لَهُ عَلَيْكَ مَا ادَّعَاهُ.

وَالثَّانِي: أَنْ يَقُولَ وَحَكَمْتُ عَلَيْكَ بِعِلْمِي.

فَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى أَحَدِ الشَّرْطَيْنِ وَأَغْفَلَ الْآخَرَ لَمْ يُنَفَّذْ حُكْمُهُ.

وَإِنْ قِيلَ بِمَنْعِهِ مِنَ الْحُكْمِ بِعِلْمِهِ، فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: إِذَا أَقَرَّ عِنْدَهُ الْخُصُومُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى الْمُقِرِّ إِلَّا أَنْ يَشْهَدَ بِإِقْرَارِهِ شَاهِدَانِ، لِئَلَّا يَصِيرَ حَاكِمًا بِعِلْمِهِ.

فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي اعْتِبَارِ هَذَا إِذَا مُنِعَ مِنَ الْحُكْمِ بِعِلْمِهِ.

فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى اعْتِبَارِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى الْمُقِرِّ بِإِقْرَارِهِ، حَتَّى يَشْهَدَ بِهِ شَاهِدَانِ، لِئَلَّا يَصِيرَ حَاكِمًا بِعِلْمِهِ.

وَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ وَهُوَ قَوْلُ الْحُسَيْنِ الْكَرَابِيسِيِّ وَأَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ إِلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِي إِقْرَارِهِ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ لِأَنَّهُ حُكْمٌ بِالْإِقْرَارِ وَلَيْسَ حُكْمٌ بِالْعِلْمِ.

وَعَلَى هَذَا لَوْ أَقَرَّ فِي مَجْلِسِ حُكْمِهِ بِحَدّ للَّهِ تَعَالَى وَقِيلَ إِنَّهُ لَا يَحْكُمُ فِي الْحُدُودِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>