أحدهما: أنت شاهدي، فقال: " إن شِئْتُمَا شَهِدْتُ وَلَمْ أَحْكُمْ أَوْ أَحْكُمُ وَلَا أَشْهَدُ ".
وَتَرَافَعَ إِلَى شُرَيْحٍ خَصْمَانِ فَقَالَ لِلْمُدَّعِي: أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ قَالَ نَعَمْ أَنْتَ شَاهِدِي. قَالَ شُرَيْحٌ أَنْتَ الْأَمِيرُ حَتَّى أَحْضُرَ فَأَشْهَدَ لَكَ " وَلَمْ يُعَاصِرْهُمَا مُخَالِفٌ.
وَلِأَنَّ الشَّاهِدَ مَنْدُوبٌ لِلْإِثْبَاتِ وَالْقَاضِيَ مَنْدُوبٌ لِلْحُكْمِ فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ قَاضِيًا بِشَهَادَتِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي شَاهِدًا لِحُكْمِهِ.
وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تَجُوزُ بِأَقَلِّ مِنِ اثْنَيْنِ فَلَوْ جَازَ لِلْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِهِ لَصَارَ إِثْبَاتُ الْحَقِّ بِشَهَادَةِ وَاحِدٍ.
وَلَوْ صَارَ الْقَاضِي كَالشَّاهِدَيْنِ لَصَحَّ عَقْدُ النِّكَاحِ بِحُضُورِهِ وَحْدَهُ لِقِيَامِهِ مَقَامَ شَاهِدَيْنِ وَفِي امْتِنَاعِ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى مَنْعِهِ مِنَ الْحُكْمِ بِعِلْمِهِ.
وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَجَازَ لِلْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: ٣٦] فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ يجوز أن يقفوا مَا لَهُ بِهِ عِلْمٌ.
وَبِمَا رَوَاهُ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ أَنَّهُ قَالَ: " بَايَعَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ وَأَنْ نَقُومَ بِالْحَقِّ حَيْثُ كُنَّا وَأَنْ لَا نَخَافَ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ ".
وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ هَيْبَةُ النَّاسِ أَنْ يَقُولَ فِي حَقٍّ إِذَا رَآهُ أَوْ سَمِعَهُ ".
وَلِأَنَّ الْحُكْمَ بِالْأَقْوَى أَوْلَى مِنَ الْحُكْمِ بِالْأَضْعَفِ عَلَى مَا وَصَفَهُ الشَّافِعِيُّ وَالْحُكْمُ فِي الشَّهَادَةِ بِغَالِبِ الظَّنِّ وَبِالْعِلْمِ مِنْ طَرِيقِ الْيَقِينِ وَالْقَطْعِ فَلَمَّا جَازَ الْحُكْمُ بِالشَّهَادَةِ كَانَ بِالْعِلْمِ أَوْلَى وَأَجْوَزَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَحْكُمَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ كَانَ الْحُكْمُ بِخَبَرِ التَّوَاتُرِ أَوْلَى، وَلَمَّا جَازَ الْحُكْمُ بِقَوْلِ الرَّاوِي عَنِ الرَّسُولِ كَانَ الْحُكْمُ بِقَوْلِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَوْلَى.
وَلِأَنَّهُ لما جَازَ أَنْ يَحْكُمَ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ بِعِلْمِهِ، جَازَ أَنْ يَحْكُمَ فِي غَيْرِهِمَا بِعِلْمِهِ، لِثُبُوتِهِ بِأَقْوَى أَسْبَابِهِ.
وَلِأَنَّ مَنْعَ الْقَاضِي مِنَ الْحُكْمِ بِعِلْمِهِ مُفْضٍ إِلَى وُقُوفِ الْأَحْكَامِ أَوْ فِسْقِ الْحُكَّامِ فِي رَجُلٍ سَمِعَهُ الْقَاضِي يُطَلِّقُ زَوْجَتَهُ ثَلَاثًا أَوْ يُعْتِقُ عَبْدَهُ، ثُمَّ أَنْكَرَ الْعِتْقَ أَوِ الطَّلَاقَ فَإِنِ اسْتَحْلَفَهُ وَمَكَّنَهُ فَسَقَ وَإِنْ لَمْ يَسْتَحْلِفْهُ وَقَفَ الْحُكْمَ وَإِذَا حَكَمَ بِعِلْمِهِ سَلِمَ مِنَ الْأَمْرَيْنِ.
وَاسْتَدَلَّ مَنْ مَنَعَ مِنَ الْحُكْمِ بِعِلْمِهِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " هَلَّا سَتَرْتَهُ بِثَوْبِكَ يَا هَزَّالُ؟ ".
وَبِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ: " لَوْ رَأَيْتُ رَجُلًا عَلَى حَدٍّ لَمْ أَحُدَّهُ بِهِ حَتَّى تَقُومَ الْبَيِّنَةُ بِهِ عِنْدِي ".