للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: يَحْكُمُ بِمَا عَلِمَهُ فِي مَجْلِسِ قَضَائِهِ وَلَا يَحْكُمُ بِمَا عَلِمَهُ فِي غَيْرِهِ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ إِلَّا فِي الْحُدُودِ.

وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ وَبِهِ قَالَ مِنَ التَّابِعَيْنِ شُرَيْحٌ، وَالشَّعْبِيُّ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الْأَوْزَاعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ.

فَأَمَّا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فَقَدْ نَصَّ فِي كِتَابِ الْأُمِّ عَلَى قَوْلَيْنِ فَقَالَ فِي أَدَبِ الْقَاضِي مِنَ الْأُمِّ: لَا يَجُوزُ فِيهِ إِلَّا وَاحِدٌ مِنْ قَوْلَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِكُلِّ مَا عَلِمَ قَبْلَ الْوِلَايَةِ وَبَعْدَهَا فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ وَغَيْرِهِ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ.

وَالثَّانِي: لَا يَقْضِي بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ وَلَا غَيْرِهِ إِلَّا أَنْ يَشْهَدَ شَاهِدَانِ عَلَى مِثْلِ مَا عَلِمَ فَيَكُونُ عِلْمُهُ وَجَهْلُهُ سَوَاءً.

وَأَظْهَرُ قَوْلَيْهِ عَلَى مَذْهَبِهِ جَوَازُ حُكْمِهِ بِعِلْمِهِ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ وَالرَّبِيعِ وَإِنَّمَا لَمْ يَقْطَعْ بِهِ حَذَارًا مِنْ مَيْلِ الْقُضَاةِ.

فَأَمَّا حُكْمُهُ بِعِلْمِهِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَدَبِ الْقَاضِي يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كَحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا.

فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِي مَذْهَبِهِ فِيهَا فَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يَجْمَعَانِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فِي تَخْرِيجِهَا عَلَى قَوْلَيْنِ.

وَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ فِيهَا بِعِلْمِهِ قَوْلًا وَاحِدًا وَإِنَّمَا الْقَوْلَانِ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ.

وَاسْتَدَلَّ مَنْ مَنَعَ الْقَاضِيَ مِنَ الْحُكْمِ بِعِلْمِهِ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فاجلدوهم ثمانين جلدة} ، فَلَوْ جَازَ لَهُ الْحُكْمُ بِعِلْمِهِ لَقَرَنَهُ بِالشَّهَادَةِ.

ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِلْحَضْرَمِيِّ فِي دَعْوَاهُ الْأَرْضَ عَلَى الْكِنْدِيِّ: " شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ لَيْسَ لَكَ إِلَّا ذَلِكَ " فَدَلَّ عَلَى انْتِفَاءِ الْحُكْمِ بِالْعِلْمِ.

وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدْ عَلِمَ مِنْ كُفْرِ الْمُنَافِقِينَ مَا لَمْ يَحْكُمْ فِيهِ بِعِلْمِهِ.

وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنَّهُ تَقَاضَى إِلَيْهِ نَفْسَانِ فَقَالَ

<<  <  ج: ص:  >  >>