(فَأضحت عَلَى مَاءِ الْعُذَيْبِ وَعَيْنُهَا ... كَوَقْبِ الصَّنْعَا جِلْسِيُّهَا قَدْ تَغَوَّرَا)
وَلِأَنَّ الْمَعَادِنَ الْبَاطِنَةَ تُخَالِفُ الظَّاهِرَةَ مِنْ وَجْهَيْنِ تَوَافَقَ بَيْنَهُمَا الْمَوَاتُ.
أَحَدُهُمَا: مَا يَلْزَمُ مِنْ كَثْرَةِ الْمَؤُونَةِ فِي الْبَاطِنَةِ حَتَّى رُبَّمَا سَاوَتْ مَؤُونَةَ إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ وَزَادَتْ وَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ فِي الظَّاهِرِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ مَا فِي الْبَاطِنَةِ مَظْنُونٌ مُتَوَهَّمٌ فَشَابَهَ مَا يَظُنُّ مِنْ مَنَافِعِ الْمَوَاتِ بَعْدَ الْإِحْيَاءِ وَمَا فِي الظَّاهِرَةِ مُشَاهِدٌ مُتَيَقِّنٌ فَصَارَتِ الْبَاطِنَةُ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ مُفَارَقَةً لِلظَّاهِرَةِ فِي الْمَنْعِ مِنْ إِقْطَاعِهَا، وَمُلْحَقَةً بِالْمَوَاتِ فِي جَوَازِ إِقْطَاعِهَا.
فَصْلٌ
: فَعَلَى هَذَا إِذَا أَقْطَعَهَا الْإِمَامُ رَجُلًا فَمَا لَمْ يَتَصَرَّفْ فِيهِمَا بِالْعَمَلِ لَمْ يَمْلِكْهَا كَمَا لا يملك الموات بالإقطاع ما لم يحيه، فَإِذَا عَمِلَ فِيهَا صَارَ مَالِكَهَا، وَفِي مِلْكِهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ مَلَكَهَا مِلْكًا مُؤَبَّدًا، سَوَاءٌ أَقَامَ عَلَى الْعَمَلِ أَوْ تَرَكَ كَمَا يَمَلِكُ الْمَوَاتَ بِالْإِحْيَاءِ سَوَاءٌ اسْتَدَامَ عِمَارَتَهُ أَوْ عَطَّلَهُ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ إِذْنُ الْإِمَامِ شَرْطًا فِي ثُبُوتِ مِلْكِهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إِذْنُهُ فِي إِقْطَاعِهَا شَرْطًا فِي تَنَاوُلِ مَا فِيهَا، لِكَوْنِهِ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّ مِلْكَهُ لَهَا مُقَدَّرٌ بِمُدَّةِ عَمَلِهِ فِيهَا فَمَا أَقَامَ عَلَى الْعَمَلِ فَهُوَ عَلَى مِلْكِهِ، وَلَهُ مَنْعُ النَّاسِ مِنْهُ، فَإِذَا فَارَقَ الْعَمَلَ زَالَ مِلْكُهُ عَنْهُ وَعَادَ إِلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِتَعَذُّرِ آلَةٍ أَوْ هَرَبِ عَبْدٍ فَلَا يَزُولُ مِلْكُهُ مَا كَانَ نَاوِيًا لِلْعَمَلِ حَتَّى يَقْطَعَ قَطْعَ تَرْكٍ فَيَزُولَ مِلْكُهُ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ عَمَلَهُ يَكُونُ إِحْيَاءً لِلطَّبَقَةِ الَّتِي عَمِلَ فِيهَا فَصَارَ مَالِكًا لَهَا بِإِحْيَائِهِ وَعَمَلِهِ، فَأَمَّا مَا تَحْتَ تِلْكَ الطَّبَقَةِ فَلَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا عَمَلٌ وَلَمْ يَحْصُلْ فِيهَا إِحْيَاءٌ فَلَمْ يَمْلِكْهَا، فَعَلَى هَذَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ إِذْنُ الْإِمَامِ شَرْطًا فِي ثُبُوتِ مِلْكِهِ عَلَيْهَا مُدَّةَ عَمَلِهِ فِيهَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
أحدهما: أن إذنه شرطاً فِيهِ حَتَّى يَجُوزَ مَنْعُ غَيْرِهِ كَمَا لَوْ قِيلَ بِتَأْيِيدِ مِلْكِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ إِذْنَهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ كَمَا لَمْ يَكُنْ إِذْنُهُ شَرْطًا فِي إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ، لِأَنَّ مِلْكَهُ فِيهَا يَخْتَصُّ بِمَا بَاشَرَ عَمَلَهُ، وَيَجُوزُ لَهُ عِنْدَ شُرُوعِهِ فِي الْعَمَلِ أَنْ يَمْنَعَ غَيْرَهُ مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي عَمِلَ فِيهِ، وَلَا يَمْنَعَهُ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مِنَ الْعُذْرِ كَمَا لَا يَمْنَعُ بِشُرُوعِهِ فِي إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ مِنْ غَيْرِ إِقْطَاعٍ إِلَّا مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي عَمِلَ فِيهِ وَاللَّهُ أعلم.
[مسألة]
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُقْطِعَهُ مِنَ الْمَعَادِنِ إِلَّا قَدْرَ مَا يَحْتَمِلُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ عَطَّلَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْعُ مَنْ أَخَذَهُ وَمِنْ حُجَّتِهِ فِي ذَلِكَ أَنَّ لَهُ بَيْعَ الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ بَيْعُ الْمَعَادِنِ وَأَنَّهَا كَالْبِئْرِ تُحْفَرُ بِالْبَادِيَةِ فَتَكُونُ لِحَافِرِهَا وَلَا يَكُونُ لَهُ مَنْعُ الْمَاشِيَةِ فَضْلَ مَائِهَا وَكَالْمَنْزِلِ بِالْبَادِيَةِ هُوَ أَحَقُّ بِهِ فَإِذَا تَرَكَهُ لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ مَنْ نَزَلَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِقْطَاعَ ضَرْبَانِ: إِقْطَاعُ إِرْفَاقٍ، وَإِقْطَاعُ تَمْلِيكٍ، فَأَمَّا إِقْطَاعُ