[(مسألة:)]
قال الشافعي رضي الله عنه: (وَإِنْ شُهِدَ عَلَيْهِ أَنَّ هَذَا خَطُّهُ لَمْ يَلْزَمْهُ حَتَّى يُقِرَّ بِهِ) .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا أَنْ تَدَّعِيَ الْمَرْأَةُ عَلَى زَوْجِهَا، أَنَّهُ كَتَبَ إليها بطلاقها، وتحضر كِتَابًا بِالطَّلَاقِ تَدَّعِي أَنَّهُ كِتَابُهُ وَيُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ كِتَابَهُ، فَإِنْ لَمْ تَصِلِ الْمَرْأَةُ الدَّعْوَى بِأَنَّهُ كِتَابُهُ، نَاوِيًا لِلطَّلَاقِ، لَمْ يُحْلَفِ الزَّوْجُ، وَإِنْ وَصَلَتْ دَعْوَاهَا، بِأَنَّهُ كَتَبَ نَاوِيًا أُحْلِفَ الزَّوْجُ حِينَئِذٍ عَلَى إِنْكَارِهِ، فَإِنْ كَانَ مُنْكِرًا لِلْكِتَابِ، أُحْلِفَ أَنَّهُ مَا كَتَبَهُ وَإِنْ كَانَ مُنْكِرًا لِلنِّيَّةِ، أُحْلِفَ أَنَّهُ مَا نَوَى، وَإِنْ أُحْلِفَ أَنَّهَا لَمْ تُطَلَّقْ مِنْهُ لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مِمَّنْ لَا يَعْتَقِدُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ بِالْكِتَابِ، وَيَعْتَقِدُهُ الْحَاكِمُ فَإِنْ شَهِدَ عَلَيْهِ عِنْدَ إِنْكَارِ الْكِتَابِ شَاهِدَانِ، أَنَّهُ خَطُّهُ وَكِتَابُهُ لَمْ تُطَلَّقْ، لِأَنَّ الْكِتَابَةَ لَا يَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ إِلَّا مَعَ النِّيَّةِ، وَالشَّهَادَةُ وَإِنْ صَحَّتْ عَلَى الْكِتَابَةِ فَلَا تَصِحُّ عَلَى النِّيَّةِ، لِأَنَّ النِّيَّةَ تَخْفَى وَالْكِتَابَةَ لَا تَخْفَى، وَلِذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمْ يَلْزَمْهُ حَتَّى يُقِرَّ بِهِ، يَعْنِي يُقِرُّ بِالْكِتَابِ وَالنِّيَّةِ مَعَ كِتَابَتِهِ، فَإِنْ قِيلَ فَكَيْفَ تَصِحُّ الشَّهَادَةُ عَلَى خطه؟ قيل بأن رأياه يكتبه، ولا تغيب الْكِتَابُ عَنْ أَعْيُنِهِمَا حَتَّى يَشْهَدَا بِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَأَيَاهُ، يَكْتُبُهُ وَلَكِنَّهُمَا عَرَفَا خَطَّهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْهَدَا بِهِ، لِأَنَّ الْخَطَّ (يشبه الخط) ، وَإِنْ رَأَيَاهُ قَدْ كَتَبَهُ وَغَابَ الْكِتَابُ عَنْهُمَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْهَدَا بِهِ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مُزَوَّرًا عَلَيْهِ فَيَتَشَبَّهُ بِهِ وَهَذِهِ الشَّهَادَةُ لَا تَلْزَمُ الشَّاهِدَيْنِ، أَنْ يَشْهَدَا بِهَا، وَلَا الْحَاكِمَ أَنْ يَسْتَدْعِيَهُمَا، لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حُكْمٌ.
(فَصْلٌ:)
فَأَمَّا الْإِشَارَةُ بِالطَّلَاقِ، فَإِنْ كَانَتْ مِنَ الْأَخْرَسِ، قَامَتْ مَقَامَ نُطْقِهِ، وَوَقَعَ الطَّلَاقُ بِإِشَارَتِهِ كَمَا يَقَعُ طَلَاقُ النَّاطِقِ بِلَفْظِهِ، إِذَا كَانَتْ إِشَارَتُهُ مَفْهُومَةً، وَتَكُونُ الْإِشَارَةُ مِنْهُ طَلَاقًا صَرِيحًا وَإِنْ كَانَتِ الْإِشَارَةُ مِنْ نَاطِقٍ، لَمْ يَقَعْ بِهَا الطَّلَاقُ لَا صَرِيحًا وَلَا كِنَايَةً، لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْكَلَامِ الَّذِي هُوَ بِالطَّلَاقِ أَخَصُّ.
فَلَوْ قَالَ: أَنْتِ وَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ الثَّلَاثِ مُرِيدًا بِهَا الطَّلَاقَ لَمْ تُطَلَّقْ، لِأَنَّ بِقَوْلِهِ أَنْتِ بَدْءٌ وَلَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي الطَّلَاقِ وَلَا كِنَايَةً، فَالْإِشَارَةُ بَعْدَ الْبَدْءِ، لَا يَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ، وَنِيَّةُ الطَّلَاقِ قَدْ تَجَرَّدَتْ عَنْ لَفْظٍ فَلَمْ يَقَعْ بِهَا الطَّلَاقُ، وَلَكِنْ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ كَذَا وَأَشَارَ بِأصْبَعٍ وَاحِدَةٍ طُلِّقَتْ وَاحِدَةً، وَلَوْ أَشَارَ بِأصْبَعَيْنِ، طُلِّقَتْ طَلْقَتَيْنِ، وَلَوْ أشار بثلاثة أَصَابِعَ، طُلِّقَتْ ثَلَاثًا، وَقَامَتْ إِشَارَتُهُ مَقَامَ الثَّلَاثِ، مَعَ قَوْلِهِ هَكَذَا مَقَامَ نِيَّتِهِ بِالثَّلَاثِ نَصَّ عَلَيْهِ ابْنُ سُرَيْجٍ، فَلَوْ أَشَارَ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ قَائِمَةٍ وَبِأصْبَعَيْنِ مَعْقُودَتَيْنِ فَإِنْ أَرَادَ الثَّلَاثَ الْقَائِمَةَ طُلِّقَتْ ثَلَاثًا، وَإِنْ أَرَادَ الْأصْبَعَيْنِ الْمَعْقُودَتَيْنِ طُلِّقَتْ ثنتين، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ نِيَّةٌ، طُلِّقَتْ بِالثَّلَاثِ أَصَابِعَ ثَلَاثًا، لِأَنَّ فِيهَا زِيَادَةَ إِشَارَةٍ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute