للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَهَذَا قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ وَأَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَغَيْرِهِمَا، لِأَنَّ نَهْيَهُ عَنِ النَّفَقَةِ إِبْرَاءٌ مِنْ ضَمَانِ الذِّمَّةِ.

وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ: يَضْمَنُ، وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدِي، لِأَنَّهُ شَرْطٌ قَدْ مَنَعَ الشَّرْعُ مِنْهُ فَكَانَ مُطْرَحًا، وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْمَأْثَمُ، وَإِنَّمَا الْوَجْهَانِ فِي الْغُرْمِ، وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ لَوْ أَذِنَ لَهُ السَّيِّدُ فِي قَتْلِ عَبْدِهِ كَانَ فِي سُقُوطِ الْغُرْمِ عَنْ قَاتِلِهِ وَجْهَانِ، وَقَدْ حَكَاهُمَا ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَزَعَمَ أَنَّهُمَا مُخَرَّجَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الرَّهْنِ إِذَا أُذِنَ لِلْمُرْتَهِنِ فِي وَطْءِ الْجَارِيَةِ الْمَرْهُونَةِ: هَلْ يَسْقُطُ عَنْهُ الْمَهْرُ بِالْإِذْنِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ.

فأما إِنْ أُمِرَ بِقَطْعِ يَدِهِ أَوْ جَلْدِهِ لَمْ يَضْمَنْ وَجْهًا وَاحِدًا، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِقَطْعِهِ حَدًّا فِي سَرِقَةٍ وَالْجَلَدُ حَدًّا فِي زِنًا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَصْلٌ:

وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ لَا يَأْمُرَهُ بِعَلْفِهَا وَلَا يَنْهَاهُ فَعَلَيْهِ عَلْفُهَا، لِمَا يَلْزَمُهُ فِي الشَّرْعِ مِنْ حُرْمَةِ نَفْسِهَا، فَإِنْ لَمْ يَعْلِفْهَا حَتَّى هَلَكَتْ فِي مُدَّةٍ إِنْ لَمْ تَأْكُلْ فِيهِ تَلِفَتْ فَعَلَيْهِ غُرْمُهَا.

وَقَالَ أبو حنيفة: لَا غُرْمَ عَلَيْهِ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْأَمْرَ إِنَّمَا تَضَمَّنَ الْحِفْظَ دُونَ الْعَلْفِ، فَلَمْ يَكُنْ مِنْهُ تَقْصِيرٌ فِيمَا تَضَمَّنَهُ الْأَمْرُ فَلَمْ يَضْمَنْ، وَتَعَلُّقًا بِأَنَّهُ لَوْ رَأَى بَهِيمَةً تَتْلَفُ جُوعًا فَلَمْ يُطْعِمْهَا لَمَا ضَمِنَ، فَكَذَلِكَ هَذِهِ، وَهَذَا فَاسِدٌ، لَأَنَّ مَا وجب بالشرع فَهُوَ كَالْمُقْتَرِنِ بِالْأَمْرِ، وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَنْ تُتَّخَذَ الرُوحُ غَرَضًا " وَذَكَرَ فِي صَاحِبَةِ الْهِرَّةِ الَّتِي دَخَلَتْ بِهَا النَّارُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَرْكُ الْبَهِيمَةِ بِلَا عَلْفٍ، وَلِأَنَّ عَلْفَهَا مِنْ شُرُوطِ حِفْظِهَا، فَلَمَّا كَانَ حِفْظُهَا وَاجِبًا وَإِنْ جَازَ أَنْ تَبْقَى بغير حافظ أولى أَنْ يَكُونَ عَلْفُهَا وَاجِبًا إِذْ لَيْسَ يَجُوزُ أَنْ تَبْقَى بِغَيْرِ عَلْفٍ، وَبِهَذَا بَطَلَ اسْتِدْلَالُهُ.

فَأَمَّا مَنْ رَأَى بَهِيمَةَ غَيْرِهِ تَمُوتُ جُوعًا فلم يطعمها فَإِنَّمَا لَمْ يَضْمَنْهَا، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ حفظها، وليس كَالْوَدِيعَةِ الَّتِي تَعَيَّنَ عَلَيْهِ حِفْظُهَا، فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ عَلْفِهَا عَلَيْهِ وَأَنَّهُ يَضْمَنُهَا إِنْ لَمْ تُعْلَفْ فَالطَّرِيقُ إِلَى رُجُوعِهِ بِعَلْفِهَا أَنْ يَأْتِيَ الْحَاكِمُ حَتَّى يَنْظُرَ حَالَ مَالِكِهَا، فَإِنْ كَانَ حَاضِرًا أَلْزَمَهُ عَلْفُهَا، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا نُظِرَ أَوْلَى الْأَمْرَيْنِ لَهُ مِنْ بَيْعِهَا إِنْ خَافَ أن يذهب في علفها أكثر منها أو النفقة عليها إن رأى ذَلِكَ قَلِيلًا، فَإِنْ رَأَى الْحَاكِمُ أَنْ يَأْذَنَ لِلْمُسْتَوْدَعِ فِي النَّفَقَةِ عَلَيْهَا، فَهَلْ يَلْزَمُهُ تَقْدِيرُهَا لَهُ أَمْ لَا؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ فِي الْمَالِكِ لَوْ كَانَ هُوَ الْآذِنَ، وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَتَوَلَّى النَّفَقَةَ عَلَيْهَا بِنَفْسِهِ أَوْ يُنَصِّبَ لَهُ أَمِينًا يَأْخُذُهَا مِنْهُ؟ عَلَى وجهين ذكرناهما في " اللقطة "، فإن اتفق الْمُسْتَوْدَعُ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ حُكْمِ حَاكِمٍ، فَإِنْ قَدَرَ عَلَى اسْتِئْذَانِ الْحَاكِمِ كَانَ مُتَطَوِّعًا بِالنَّفَقَةِ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى اسْتِئْذَانِهِ فَفِي رُجُوعِهِ بالنفقة ثلاثة أوجه:

أحدهما: يَرْجِعُ بِهَا أَشْهَدَ، أَوْ لَمْ يُشْهِدْ، لِوُجُوبِهَا عَلَيْهِ، وَعَدَمِ مَنْ يَحْكُمُ بِهَا لَهُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>