وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا مَاتَ قَبْلَ اللِّعَانِ وَرِثَهُ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْفِيَهُ بِاللِّعَانِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَاسْتُدِلَّ عَلَى ذَلِكَ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ:
أَحَدُهَا: أن من مات على حكم استقر الْحُكْمُ بِمَوْتِهِ، كَمَنْ مَاتَ عَبْدًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْتِقَ بَعْدَ مَوْتِهِ، أَوْ مَاتَ كَافِرًا لَمْ يَصِرْ مُسْلِمًا بَعْدَ مَوْتِهِ، كَذَلِكَ هَذَا الْوَلَدُ مَاتَ ابْنًا فَلَمْ تَرْتَفِعْ بُنُوَّتُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ بِالْمَوْتِ قَدْ صَارَ وَارِثًا لَهُ وَمِيرَاثُهُ اعْتِرَافٌ بِهِ وَالْمُعْتَرِفُ بِالْوَلَدِ لَا يَجُوزُ لَهُ نَفْيُهُ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَرْتَفِعَ بِاللِّعَانِ فِرَاشُ زَوْجَتِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْفِيَ بِهِ نَسَبَ وَلَدِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ.
وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّ نَسَبَ الْحَيِّ أَقْوَى مِنْ نَسَبِ الْمَيِّتِ. فَلَمَّا جَازَ أن ينفي باللعان أقوى النسبين كما أَنْ يَنْفِيَ أَضْعَفَهُمَا أَوْلَى.
لِأَنَّ الدَّاعِيَ إِلَى نَفْيِهِ فِي الْحَيَاةِ أَمْرَانِ: أَنْ لَا يَنْتَسِبَ إليه، وأن لا يلزمه مونته وَهَذَانِ مَوْجُودَانِ بَعْدَ الْمَوْتِ كَوُجُودِهِمَا قَبْلَهُ، فَاقْتَضَى أَنْ يَسْتَوِيَ الْحَالَانِ فِي نَفْيِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَلْحَقَ بِهِ النَّسَبُ [يَوْمَ] الْمَوْتِ جَازَ أَنْ يُنْفَى عَنْهُ بَعْدَ الْمَوْتِ لِيَسْتَوِيَ حُكْمُ اللُّحُوقِ وَالنَّفْيِ بَعْدَ الْمَوْتِ كَمَا اسْتَوَيَا قَبْلَهُ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ بِأَنَّ ثُبُوتَ الْحُكْمِ إِلَى الْمَوْتِ يَمْنَعُ مِنَ ارْتِفَاعِهِ بَعْدَهُ كَالْكُفْرِ وَالرِّقِّ فِيمَا تَقَدَّمَهُمَا، فَذَلِكَ مَا اسْتَقَرَّ بِالْمَوْتِ وَلَمْ يَتَغَيَّرْ بَعْدَهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ نَفْيُ النَّسَبِ لِأَنَّهُ يُوجِبُ ارْتِفَاعَهُ مِنْ أَصْلِهِ وَلَا يَثْبُتُ لَهُ فِيمَا بَعْدُ عَنِ النَّسَبِ فَجَازَ أَنْ يَنْفِيَهُ لِيَرْتَفِعَ قَبْلَ الْمَوْتِ وَبَعْدَهُ، وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عَنْ رَفْعِ الْفِرَاشِ بِاللِّعَانِ، أَنَّهُ رَافِعٌ فِي الْحَالِ مَعَ ثُبُوتِهِ مِنْ قَبْلُ وَقَدِ ارْتَفَعَ بِالْمَوْتِ فَلَمْ يَبْقَ لِرَفْعِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ تَأْثِيرٌ بِخِلَافِ النِّسَبِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْمِيرَاثِ فَهُوَ عِنْدَنَا غَيْرُ وَارِثٍ إِذَا الْتَعَنَ مِنْهُ، فَلَمْ يَسْلَمْ لَهُمُ الِاسْتِدْلَالُ.
(فَصْلٌ)
فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا فَكَانَا وَلَدَيْنِ الْتَعَنَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَنَفَاهُ وَمَاتَ الْآخَرُ قَبْلَ نَفْيِهِ فَإِنَّ الْتِعَانَهُ مِنَ الْحَيِّ لَا يَقْتَضِي نَفْيَ الْمَيِّتِ عَنْهُ حَتَّى يُلَاعِنَ مِنْهُ، فَإِنْ لَمْ يَلْتَعِنْ مِنْهُ لَحِقَ بِهِ الْمَيِّتُ وَالْحَيُّ جَمِيعًا، لِأَنَّهُمَا مِنْ حَمْلٍ وَاحِدٍ، وَإِنِ الْتَعَنَ مِنْهُ انْتَفَيَا عَنْهُ بِلِعَانَيْنِ، وَلَا يَحْتَاجُ فِي اللِّعَانِ الثَّانِي إِلَى قَذْفٍ يَتَقَدَّمُهُ لِأَنَّهُمَا مِنْ حَمْلٍ قَدْ تَقَدَّمَ الْقَذْفُ لَهُ وَمَاؤُهُ وَاحِدٌ فَافْتَقَرَ إِلَى قَذْفٍ وَاحِدٍ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يُلَاعِنُ مِنَ الْمَيِّتِ وَيَلْحَقُ بِهِ الْحَيُّ وَالْمَيِّتُ لِأَنَّهُمَا من حمل واحد.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute