يُوحَى} [النجم: ٤] ؛ وَلِأَنَّ الِاجْتِهَادَ لَا يُسَوَّغُ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ. وَأَوَامِرُ اللَّهِ تَعَالَى نَصٌّ، فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ هَذَا الْبَيَانُ لَازِمًا فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقِ عِبَادِهِ.
وَالْأَصَحُّ عِنْدِي مِنْ إِطْلَاقِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فِي اجْتِهَادِ الرَّسُولِ أَنْ يَكُونَ اجْتِهَادُهُ مُعْتَبَرًا بِالْحُكْمِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يُشَارِكُ فِيهِ أُمَّتَهُ كَنَهْيِهِ عَنِ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ وَكَنَهْيِهِ عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ فِيهِ حَتَّى يَأْخُذَ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَوَحْيِهِ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِابْنِ مَسْعُودٍ: " إِنَّ اللَّهَ يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ وَإِنَّ مِمَّا يُحْدِثُ أَنْ لَا يَتَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ ". وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا تُشَارِكُهُ فِيهِ أُمَّتُهُ: كَقَوْلِهِ: " لَا مِيرَاثَ لِقَاتِلٍ " وَكَحَدِّهِ لِشَارِبِ الْخَمْرِ، جَازَ أَنْ يَحْكُمَ فِيهِ بِرَأْيِهِ وَاجْتِهَادِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْأَحْكَامَ هِيَ إِلْزَامٌ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ لِمَأْمُورٍ فَمَا دَخَلَ فِيهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِهِ وَمَا لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ جَازَ أَنْ يَكُونَ آمِرًا بِهِ، لِأَنَّ الْمَأْمُورَ غَيْرُ الْآمِرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِصَوَابِ مَا ذَكَرْتُهُ.
(فَصْلٌ: مَا يَلْزَمُ الْعَمَلُ بِهِ مِنَ السنة)
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ فِيمَا يَلْزَمُ الْعَمَلُ بِهِ مِنَ السُّنَّةِ: فَأَقُولُ إِنَّ السُّنَّةَ إِذَا جَاءَتْ بِحُكْمٍ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَتَفَرَّدَ السُّنَّةُ بِذَلِكَ الْحُكْمِ، أَوْ يَقْتَرِنَ بها فيه أصل آخر.
( [القول في السنة إذا انفردت] )
:
فَإِنِ انْفَرَدَتْ بِذَلِكَ الْحُكْمِ وَجَبَ الْعَمَلُ بِهَا فِي الْتِزَامِ ذَلِكَ الْحُكْمِ؛ لِأَنَّهَا أَصْلٌ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ سَوَاءٌ وَافَقَهَا الْقِيَاسُ أَوْ خَالَفَهَا.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إِنْ خَالَفَتِ الْقِيَاسَ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ كَانَ الْعَمَلُ عَلَى الْقِيَاسِ أَوْلَى مِنَ الْأَخْذِ بِالسُّنَّةِ.
وَهَذَا فَاسِدٌ لِأَنَّ الْقِيَاسَ فَرْعُ السُّنَّةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَافِعًا لِلسُّنَّةِ.
وَإِنِ اقْتَرَنَ بِالسُّنَّةِ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ أَصْلٌ آخَرُ فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ:
أَحَدُهَا: كِتَابُ اللَّهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: سُنَّةٌ أُخْرَى.
وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: إِجْمَاعٌ.
الضَّرْبُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ يَقْتَرِنَ بِالسُّنَّةِ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ كِتَابُ اللَّهِ فَلَا يَخْلُو الْكُتَّابُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِحُكْمِ السُّنَّةِ، أَوْ مُنَافِيًا لَهُ.
فَإِنْ كَانَ مُوَافِقًا صَارَ ذَلِكَ الْحُكْمُ ثَابِتًا بِأَصْلَيْنِ هُمَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ.
وَنُظِرَ فِيهِمَا فَإِنْ تَقَدَّمَتِ السُّنَّةُ بِهِ عَلَى الْكِتَابِ كَانَ وُجُوبُهُ بِالسُّنَّةِ، وَالْكِتَابُ مُؤَكِّدٌ وَإِنْ تَقَدَّمَ الْكِتَابُ بِهِ عَلَى السُّنَّةِ كَانَ وُجُوبُهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةُ مُؤَكِّدَةٌ.