(فَصْلٌ:)
وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا، فَهُوَ أَنْ يَحْلِفَ لَيَقْضِيَنَّهُ حَقَّهُ عِنْدَ رَأْسِ الْهِلَالِ، أَوْ إِلَى رَأْسِ الْهِلَالِ، فَالَّذِي نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ فِيهَا عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ قَوْلِهِ: إِلَى رَأْسِ الْهِلَالِ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: عِنْدَ رَأْسِ الْهِلَالِ فِي أَنَّهُ يَحْنَثُ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ، لِيَكُونَ زمان البر فيها بين وقتي حنث بتقدم أَحَدِهِمَا عَلَى رَأْسِ الْهِلَالِ وَيتَأَخر الْآخَرِ عَنْهُ، وَجَمَعَ الْمُزَنِيُّ بَيْنَ قَوْلِهِ إِلَى رَأْسِ الْهِلَالِ، وإلى رَمَضَانَ فِي أَنَّ زَمَانَ الْبِرِّ مِنْ وَقْتِ يَمِينِهِ، وَإِلَى رَأْسِ الْهِلَالِ، كَمَا كَانَ فِي وَقْتِ يَمِينِهِ إِلَى رَمَضَانَ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى مَا قَالَهُ الْمُزَنِيُّ مِنَ اخْتِلَافِ الْحُكْمِ بَيْنَ قَوْلِهِ: عِنْدَ رَأْسِ الْهِلَالِ، فِي أَنَّ وَقْتَ الْبِرِّ يَكُونُ مَعَ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ بَيْنَ زَمَانَيْ حِنْثٍ، وَقَوْلِهِ: عِنْدَ رَأْسِ الْهِلَالِ، أَنَّ الْبِرَّ مِنْ وَقْتِ يَمِينِهِ وَإِلَى رُؤْيَةِ الْهِلَالِ، فَيَكُونُ رُؤْيَةُ الْهِلَالِ وَقْتًا لِحِنْثِهِ، وَرُؤْيَتُهُ فِي قَوْلِهِ: عِنْدَ رَأْسِ الْهِلَالِ وَقْتًا لِبَرِّهِ لِأَنَّ لَفْظَةَ " إِلَى " مَوْضُوعَةٌ فِي اللُّغَةِ لِلْحَدِّ وَالْغَايَةِ، وَلَفْظَةَ: عِنْدَ مَوْضُوعَةٌ لِلْمُقَارَبَةِ، فَاخْتَلَفَ حُكْمُهُمَا لِاخْتِلَافِ مَوْضُوعِهِمَا، كَمَا اخْتَلَفَ حُكْمُ قَوْلِهِ: إلى رمضان، وعند رَمَضَانَ، وَأَجَابَ مَنْ قَالَ بِهَذَا الْوَجْهِ عَنْ جَمْعِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ جَوَابَهُ وَإِنْ كَانَ مَعْطُوفًا عَلَيْهِمَا فَهُوَ عَائِدٌ إِلَى قَوْلِهِ: عِنْدَ رَأْسِ الْهِلَالِ وَلَمْ يَعُدْ إِلَى قَوْلِهِ: إِلَى رَأْسِ الْهِلَالِ، وَلِلشَّافِعِيِّ عَادَةٌ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ مَسْأَلَتَيْنِ يَعْطِفُ بِالْجَوَابِ عَلَيْهِمَا، فَيُرِيدُ به إِحْدَاهُمَا اكْتِفَاءً بِمَا عُرِفَ مِنْ مَذْهَبِهِ فِي الْأُخْرَى وَلَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ أَنَّ " إِلَى " وَ " عِنْدَ " مُخْتَلِفَا الْمَعْنَى فِي اللُّغَةِ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَا مُخْتَلِفَيْنِ فِي الْحُكْمِ فِي الشَّرْعِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّ جَمْعَ الشَّافِعِيِّ بَيْنَ عِنْدَ رَأْسِ الْهِلَالِ، وإلى رَأْسِ الْهِلَالِ صحيحٌ. وَأَنَّ كِلَيْهِمَا فِي الْبِرِّ وَالْحِنْثِ واحدٌ، وَأَنَّ رَأْسَ الْهِلَالِ وَقْتُ الْبِرِّ فِيهِمَا، وَأَنَّ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ وَقْتُ الْحِنْثِ فِيهِمَا، لِأَنَّ لَفْظَةَ " إِلَى " قَدْ تُسْتَعْمَلُ لِلْحَدِّ تَارَةً وَلِلْمُقَارَبَةِ تَارَةً كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَنْ أنْصَارِيَ إِلَى اللهِ) {الصف: ١٤) أَيْ: مَعَ اللَّهِ، {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ) {المائدة: ٦) ، أَيْ: مَعَ الْمَرَافِقِ، فَلَمَّا احْتَمَلَ أَنْ تَكُونَ لِلْحَدِّ تَارَةً، وَلِلْمُقَارَبَةِ أُخْرَى، صَارَ الْحِنْثُ فِي جَعْلِهَا لِلْحَدِّ مَشْكُوكًا فِيهِ، وَفِي جَعْلِهَا لِلْمُقَارَبَةِ مُتَيَقِّنًا، فَحَنِثَ بِالْيَقِينِ دُونَ الشَّكِّ، وَفَرَّقَ أَبُو إِسْحَاقَ وَمَنْ تَابَعَهُ، بَيْنَ قَوْلِهِ إِلَى رَأْسِ الشَّهْرِ فَيَكُونُ لِلْمُقَارَبَةِ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: إِلَى رَمَضَانَ فَيَكُونُ لِلْحَدِّ بِأَنَّ رَأْسَ الشَّهْرِ مُعَيَّنٌ لِلْقَضَاءِ، فَغَلَبَ حُكْمُ الْوَقْتِ عَلَى حُكْمِ اللَّفْظِ فَحُمِلَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute