وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: ٥٩] وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ اجْتَهَدُوا فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَلَمْ يُقَلِّدْ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، مَعَ تَفَاضُلِهِمْ فِي الْعِلْمِ: وَلِأَنَّ مَعَهُ آلَةَ الِاجْتِهَادِ لِتُوَصِّلَهُ إِلَى دَرْكِ الْمَطْلُوبِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ التَّقْلِيدُ كَالتَّقْلِيدِ فِي التَّوْحِيدِ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى تَقْلِيدِ الْعَامِّيِّ لِأَنَّهُ قَالَ: {إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} .
وَالثَّانِي: أَنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى سُؤَالِ الْمُسْتَشَارِ فِي الْمُذَاكَرَةِ وَالْكَشْفِ.
فَلَوْ لَمْ يَصِلِ الْقَاضِي بِاجْتِهَادِهِ إِلَى حُكْمِ الْحَادِثَةِ فَفِي جَوَازِ تَقْلِيدِهِ فِيهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ يَجُوزُ أَنْ يُقَلِّدَ فِيهَا، لِلضَّرُورَةِ، وَيَحْكُمَ لِأَنَّهُ مَا مِنْ عَالمٍ إِلَّا وَيَجُوزُ أَنْ يُشْكَلَ عَلَيْهِ أَحْكَامُ بَعْضِ الْحَوَادِثِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَلِّدَ فِي قَضَائِهِ وَيَسْتَخْلِفَ عَلَيْهَا مَنْ يَحْكُمُ بِاجْتِهَادِهِ إِنْ ضَاقَ وَقْتُ الْحَادِثَةِ لِأَنَّ الْحَاكِمَ مُلْزَمٌ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَلْزَمَ مَا لَا يَعْتَقِدُ لُزُومَهُ.
(شُرُوطُ من يشاوره القاضي)
:
[(مسألة)]
: قال الشافعي رضي الله عنه: وَلَا يُشَاوِرُ إِذَا نَزَلَ بِهِ الْمُشْكِلُ إِلَّا عَالِمًا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْآثَارِ وَأَقَاوِيلِ النَّاسِ وَالْقِيَاسِ وَلِسَانِ الْعَرَبِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَهَذِهِ شُرُوطُ مَنْ يُشَاوِرُهُ الْقَاضِي فِي الْأَحْكَامِ وَمَجْمُوعِهَا:
إِنَّ كُلَّ مَنْ صَحَّ أَنْ يُفْتِيَ فِي الشَّرْعِ صَحَّ أَنْ يُشَاوِرَهُ الْقَاضِي فِي الْأَحْكَامِ فَتُعْتَبَرُ فِيهِ شُرُوطُ الْمُفْتِي وَلَا تُعْتَبَرُ فِيهِ شُرُوطُ الْقَاضِي.
فَيَجُوزُ أَنْ يُشَاوِرَ الْأَعْمَى وَالْعَبْدَ وَالْمَرْأَةَ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَاضِيًا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَجُوزُ أَنْ يُسْتَفْتَى وَيُفْتِيَ.
وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْمُفْتِي شَرْطَانِ:
أَحَدُهُمَا: الْعَدَالَةُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الْمُخْبِرِ دُونَ الشَّاهِدِ، لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ وَسَلَامَةَ الْبَصَرِ يُعْتَبَرَانِ فِي الشَّاهِدِ وَلَا يُعْتَبَرَانِ فِي الْمُفْتِي وَالْمُخْبِرِ.
وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِي النَّوَازِلِ وَالْأَحْكَامِ.
وَيَكُونُ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ إِذَا أَحَاطَ عِلْمُهُ بِخَمْسَةِ أُصُولٍ: