وَهَذَا الْحَدِيثُ مُسْنَدٌ، وَلَمْ يَرْوِهِ الشَّافِعِيُّ وَإِنْ أَشَارَ إِلَيْهِ فَثَبَتَ أَنَّ الْقَتْلَ مَنْسُوخٌ، فَهَذَا حُكْمُ الْخَمْرِ.
(فَصْلٌ)
فَأَمَّا الْأَنْبِذَةُ الْمُسْكِرَةُ سِوَى الْخَمْرِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِجْرَاءِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ عَلَيْهَا. فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَفُقَهَاءُ الْحَرَمَيْنِ إِلَى أَنَّ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ مِنْ جَمِيعِ الأنبذة قليله حَرَامٌ. وَيَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْخَمْرِ فِي التَّحْرِيمِ والنجاسة والحد، سواء كان نيئاً أَوْ مَطْبُوخًا، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ.
وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْعِرَاقِ إِلَى إِبَاحَتِهِ، فَأَبَاحَ بَعْضُهُمْ جَمِيعَ الْأَنْبِذَةِ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَمَّا عَصِيرُ الْعِنَبِ إِذَا لَمْ يمسه طبخ فَهُوَ الْخَمْرُ الَّذِي يَحْرُمُ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ، وَيُحْكَمُ بِنَجَاسَتِهِ وَوُجُوبِ الْحَدِّ فِي شُرْبِهِ، فَإِنْ طُبِخَ فذهب ثلثاه حل، ولا حَدَّ فِيهِ حَتَّى يُسْكِرَ، وَإِنْ ذَهَبَ أَقَلُّ من ثلثه فَهُوَ حَرَامٌ، وَلَا حَدَّ فِيهِ حَتَّى يُسْكِرَ. وَمَا عُمِلَ مِنَ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَالْعَسَلِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ، فَجَمِيعُهُ حَلَالٌ، طُبِخَ أَوْ لَمْ يُطْبَخْ، أَسْكَرَ أَوْ لَمْ يُسْكِرْ، وَلَا حَدَّ فِيهِ حَتَّى يُسْكِرَ، وَيَحْرُمُ مِنْهُ الْقَدَحُ الْمُسْكِرُ، وَجَمِيعُ الْأَنْبِذَةِ عِنْدَهُ طَاهِرَةٌ، وَإِنْ حَرُمَتْ سِوَى الْخَمْرِ، وَلَا يَنْطَلِقُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا اسْمُ الْخَمْرِ، وَلَا يُعَلَّلُ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ فَصَارَ الْخِلَافُ معه مشتملاً على خمسة فصول:
أحدهما: هَلْ يَنْطَلِقُ عَلَى الْأَنْبِذَةِ الْمُسْكِرَةِ اسْمُ الْخَمْرِ؟ .
عِنْدَنَا يَنْطَلِقُ وَعِنْدَهُ لَا يَنْطَلِقُ.
وَالثَّانِي: هَلْ يَحْرُمُ قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا؟ عِنْدَنَا يَحْرُمُ وَعِنْدَهُ لَا يحرم.
والثالث: هل تنجس كالخمر؟ عندنا تنجس وعنده لا تنجس.
وَالرَّابِعُ: هَلْ يَتَعَلَّقُ وُجُوبُ الْحَدِّ بِالشُّرْبِ أَوْ بِالسُّكْرِ؟ عِنْدَنَا بالشُّرْبِ وَعِنْدَهُ بِالسُّكْرِ.
وَالْخَامِسُ: هَلْ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ مُعَلَّلٌ أَوْ غَيْرُ مُعَلَّلٍ؟ عِنْدَنَا مُعَلَّلٌ وَعِنْدَهُ غَيْرُ مُعَلَّلٍ.
وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى إِبَاحَةِ النَّبِيذِ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنْ كَانَ مَذْهَبُهُ فِيهِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ التَّفْصِيلِ، بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} [النحل: ٦٧] .
والسَّكَرُ هُوَ الْمُسْكِرُ فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةَ: فَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى إِبَاحَتِهِ.
وَبِمَا رَوَى أَبُو عَوْنٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " حُرِّمَتِ الْخَمْرُ بِعَيْنِهَا وَالسُّكْرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ) فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى ثَلَاثَةِ أحكام: