قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: ثُمَّ بَدَأَ الشَّافِعِيُّ بِذِكْرِ الصِّغَرِ وَحَدِّ الصِّغَرِ إِلَى زَمَانِ الْبُلُوغِ وَالْبُلُوغُ يَكُونُ بِخَمْسَةِ أَشْيَاءَ، ثَلَاثَةٌ مِنْهَا يَشْتَرِكُ فِيهَا الرِّجَالُ والنساء وهي: الاحتلام، والإنبات، وَالسِّنُّ، وَشَيْئَانِ مِنْهَا يَخْتَصُّ بِهِمَا النِّسَاءُ دُونَ الرِّجَالِ وَهُمَا الْحَيْضُ وَالْحَمْلُ.
فَأَمَّا الِاحْتِلَامُ فَإِنَّمَا كَانَ بُلُوغًا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} [النور: ٥٩]
وَلِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ " وَذَكَرَ مِنْهَا الصَّبِيَّ حَتَّى يَحْتَلِمَ.
وَالِاحْتِلَامُ هُوَ إِنْزَالُ الْمَنِيِّ الدَّافِقِ مِنْ رَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ مِنْ نَوْمٍ أَوْ جِمَاعٍ أَوْ غَيْرِهِمَا.
وَأَقَلُّ زَمَانِ الِاحْتِلَامِ فِي الْغِلْمَانِ عَشْرُ سِنِينَ، وَفِي الْجَوَارِي تِسْعُ سِنِينَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(فَصْلٌ)
فَأَمَّا الْإِنْبَاتُ فَقَدْ مَنَعَ أبو حنيفة أَنْ يَكُونَ لَهُ بالبلوغ تعلق لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ " وَذَكَرَ مِنْ ذَلِكَ الصَّبِيّ حَتَّى يَحْتَلِمَ. فَجَعَلَ الِاحْتِلَامَ حَدًّا لِبُلُوغِهِ. وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ إِنْبَاتُ شَعْرِ الْوَجْهِ بُلُوغًا فَأَوْلَى أَلَّا يَكُونَ إِنْبَاتُ شَعْرِ الْعَانَةِ بُلُوغًا.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُ يَكُونُ بُلُوغًا أَنَّ سَبْيَ بَنِي قُرَيْظَةَ نَزَلُوا مِنْ حُصُونِهِمْ عَلَى حُكْمِ سَعْدِ ابْنِ مُعَاذٍ الْأَشْهَلِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ سَعْدٌ حُكْمِي فِيهِمْ أَنَّ مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ الْمُوسَى قُتِلَ وَمَنْ لَمْ تَجْرِ عَلَيْهِ اسْتُرِقَّ.
فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " هَذَا حُكْمُ اللَّهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةٍ " لِأَنَّ السَّمَاءَ رُقَعٌ، وَلِأَنَّ شَعْرَ الْعَانَةِ وَالْإِنْزَالَ يَخْتَصَّانِ بِعُضْوٍ يَحْدُثَانِ عِنْدَ وَقْتِ الْبُلُوغِ بِالْإِنْزَالِ شَرْعًا وَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْإِنْبَاتِ شَرْعًا.
وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيْ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْبُلُوغُ عُرْفًا فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ الْبُلُوغُ شَرْعًا كَالْإِنْزَالِ. وَبِهَذَا الْمَعْنَى مِنَ الِاسْتِدْلَالِ فَرَّقْنَا بَيْنَ شَعْرِ الْوَجْهِ وَبَيْنَ شَعْرِ الْعَانَةِ.
فَأَمَّا الْخَبَرُ فَلَيْسَ فِي ظَاهِرِهِ مَعَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ النَّصِّ وَالِاسْتِدْلَالِ حُجَّةٌ.
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا وَأَنَّ الْإِنْبَاتَ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْبُلُوغُ فِي الْمُشْرِكِينَ فَهَلْ يَكُونُ بُلُوغًا فِيهِمْ أَوْ دَلَالَةً عَلَى بُلُوغِهِمْ؟ فِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَكُونُ بُلُوغًا فِيهِمْ كَالْإِنْزَالِ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ بُلُوغًا فِي الْمُسْلِمِ أَيْضًا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ دلالة على بلوغهم، لأن سعد جَعَلَهُ دَلِيلًا عِنْدَ تَعَذُّرِ الْعِلْمِ بِسِنِّهِمْ.