ثُمَّ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْحَبْسِ أَيْضًا مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " حَبَسَ رَجُلًا يَوْمًا وَلَيْلَةً فِي تُهْمَةٍ " فَلَمَّا جَازَ حَبْسُهُ فِي تُهْمَةٍ لَمْ تَثْبُتْ عَلَيْهِ فَأَوْلَى أَنْ يَجُوزَ حَبْسُهُ فِي دَيْنٍ ثَبَتَ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ الْحَبْسَ يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ وَمَا لَا يُتَوَصَّلُ إِلَى اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ إِلَّا بِهِ كَانَ مُسْتَحَقًّا كَالْمُلَازَمَةِ فَإِذًا ثَبَتَ أَنَّهُ يُحْبَسُ بِدَيْنِهِ - فَإِذَا اتَّفَقَ غُرَمَاؤُهُ عَلَى حَبْسِهِ حُبِسَ وَإِنِ اتَّفَقُوا عَلَى تَرْكِهِ أُطْلِقَ وَإِنِ اتَّفَقُوا عَلَى مُلَازَمَتِهِ دُونَ حَبْسِهِ لُوزِمَ، لِأَنَّ الْمُلَازَمَةَ أَقَلُّ ضَرَرًا مِنَ الْحَبْسِ فَأَمَّا إِنْ سَأَلَ بَعْضُ غُرَمَائِهِ حَبْسَهُ وَرَضِيَ الْبَاقُونَ بِإِطْلَاقِهِ وَجَبَ أَنْ يُحْبَسَ لِمَنْ سَأَلَ حَبْسَهُ - وَلَوْ كَانَ وَاحِدًا وَأَقَلَّ جَمَاعَتِهِمْ حَقًّا - وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْبَسَ لِبَعْضِهِمْ إِذَا أَطْلَقَهُ الْبَاقُونَ حَتَّى يَجْتَمِعُوا عَلَى حَبْسِهِ. وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ حَبْسَهُ مُسْتَحَقٌّ فِي دَيْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْقُطَ حَقُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِعَفْوِ غَيْرِهِ كَالْيَمِينِ.
(فَصْلٌ)
وَأَمَّا نَفَقَتُهُ فِي مُدَّةِ حَبْسِهِ فَفِي مَالِهِ دُونَ غُرَمَائِهِ. وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى وُجُوبِهَا عَلَى غُرَمَائِهِ الْحَابِسِينَ لَهُ. وَحُكِيَ نَحْوُهُ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا. وهذا مذهب مطروح وَقَوْلٌ مَرْدُودٌ، لِأَنَّهُ حُبِسَ لِغُرَمَائِهِ لِيَتَوَصَّلُوا إِلَى حُقُوقِهِمْ بِحَبْسِهِ فَلَوْ لَزِمَتْهُمْ نَفَقَتُهُ لَأَضَرَّ الْحَبْسُ بهم دونه ولا ارتفق بِهِ دُونَهُمْ فَتَبْطُلُ فَائِدَةُ الْحَبْسِ وَالتَّوَصُّلِ إِلَى الْحَقِّ فَإِنْ كَانَ ذَا صَنْعَةٍ فَعَمِلَهَا فِي حَبْسِهِ فَفِي مَنْعِهِ مِنْهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يُمْنَعُ، لِأَنَّ فِي تَرْكِهِ وَعَمَلِهِ تَأْخِيرُ أَمْرِهِ وَيُطَاوَلُ، حَبْسُهُ اتِّكَالًا عَلَى عَمَلِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُمْنَعُ مِنَ الْعَمَلِ لِأَنَّهُ كَسْبٌ يُفْضِي إِلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ - وَلَا يَلْزَمُ إِخْرَاجُهُ إِلَى الْجُمَعِ وَالْجَمَاعَاتِ وَلَا يَكُونُ عَاصِيًا بِتَأَخُّرِهِ عَنْهَا إِذَا كَانَ مُعْسِرًا وَلَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِئْذَانُ فِي الْخُرُوجِ إِلَى الْجُمُعَةِ إِذَا عَلِمَ بِشَاهِدِ الْحَالِ وَغَالِبِ الْعَادَةِ أَنَّهُ لَوِ اسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ. وَأَوْجَبَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ اسْتِئْذَانَ الْمَانِعِ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ فَإِنْ مُنِعَهُ امْتَنَعَ، لِأَنَّ ابْنَ سِيرِينَ حُبِسَ فِي ثَمَنِ زَيْتٍ كَانَ عَلَيْهِ فَكَانَ يَغْتَسِلُ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ وَيَلْبَسُ ثِيَابَهُ وَيَسْتَأْذِنُ فَإِذَا مَنَعَهُ السَّجَّانُ رَجَعَ وَلَوِ اسْتَأْذَنَ صَاحِبَ الدَّيْنِ كَانَ حَسَنًا وَأَمَّا إِذْنُ السَّجَّانِ فَلَا يُؤَثِّرُ وَلَوْ تَمَكَّنُ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى الْجُمُعَةِ لَمْ يَتَأَخَّرْ.
وَلَوْ حُبِسَ لِرَجُلٍ بِحَقٍّ فَجَاءَ آخَرُ فَادَّعَى عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَاكِمِ حَقًّا جَازَ لِلْحَاكِمِ إِخْرَاجُهُ مِنْ حَبْسِهِ لِاسْتِمَاعِ الدَّعْوَى عَلَيْهِ، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ إِخْرَاجُهُ مِنَ الْحَبْسِ لِسَمَاعِ الدَّعْوَى، لِمَا فِيهِ مِنْ إِسْقَاطِ حَقِّ الْأَوَّلِ مِنْ حَبْسِهِ. وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ الْحُقُوقَ إِذَا أَمْكَنَ اسْتِيفَاؤُهَا لَمْ يَجُزْ إِسْقَاطُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ فِي حَقِّ الثَّانِي مِنْ دَعْوَاهُ وَيَرُدَّ إِلَى حَقِّ الْأَوَّلِ فِي حَبْسِهِ وَلَوْ كَانَ مَا قَالَ مَالِكٌ صَحِيحًا لَكَانَ الْحَبْسُ نَافِعًا لَهُ فِي دَفْعِ الدَّعَاوَى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute