والثاني: أن الشرع بتخصيص الْحُوتِ وَالْجَرَادِ بَعْدَ الْحَظْرِ مَانِعٌ مِنْ أَنْ يُقَاسَ عَلَيْهِ مَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ كما صح أَنْ تُقَاسَ عَلَيْهِ مَا لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ تَسْوِيَتِهِمْ بَيْنَ مَوْتِ الْمَأْكُولِ وَغَيْرِ الْمَأْكُولِ، قِيَاسًا عَلَى مَا لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ، فَهُوَ أَنَّ مَوْتَ مَا لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ لَمَّا اسْتَوَى حُكْمُ جَمِيعِهِ فِي تَحْرِيمِ الْبَيْعِ اسْتَوَى، حُكْمُ جَمِيعِهِ فِي التَّنْجِيسِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَمَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ لَمَّا اخْتَلَفَ حُكْمُهُ فِي جَوَازِ الْبَيْعِ، اخْتَلَفَ حَالُهُ فِي التَّنْجِيسِ وَتَحْرِيمِ الْأَكْلِ.
(فَصْلٌ: حُكْمُ الْمَائِعِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ مَا لَا نَفْسَ لَهُ سائلة)
فإذا تقرر ما وصفنا من حال نجاسته بِالْمَوْتِ انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى نَجَاسَةِ مَا مَاتَ فِيهِ مِنْ مَائِعٍ أَوْ مَاءٍ قَلِيلٍ وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
ضَرْبٌ: تَوَلَّدَ مِنْ نَفْسِ مَا مَاتَ فِيهِ كَدُودِ الْخَلِّ وَاللَّبَنِ إِذَا مَاتَ فِي الْخَلِّ، وَاللَّبَنِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُنَجِّسُ، لِأَنَّ الِاحْتِرَازَ مِنْ مَوْتِ مَا تَوَلَّدَ فِيهِ مِنْ دُودٍ غَيْرُ مُمْكِنٍ، فَكَانَ مَعْفُوًّا عَنْهُ كَدَمِ الْبَرَاغِيثِ، فَلَوْ نُقِلَ مِنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَأُلْقِيَ فِي غَيْرِهِ مِنْ مَائِعٍ أَوْ مَاءٍ صَارَ مَا أُلْقِيَ فِيهِ نَجِسًا، لِإِمْكَانِ الِاحْتِرَازِ مِنْهُ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَنْ مُتَوَلِّدٍ مِنْ طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ كَالذُّبَابِ وَالْخَنَافِسِ وَالْجِعْلَانِ، فَإِذَا مَاتَ فِي مَاءٍ أَوْ مَائِعٍ فَفِي تَنْجِيسِهِ بِهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَبِهِ قَالَ فِي الْقَدِيمِ؛ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَاخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ أَنَّهُ عَلَى طَهَارَتِهِ لَا يُنَجِّسُ لِمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنِ ابْنِ أَبِي فُدَيْكٍ عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ خَالِدٍ أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ يَقُولُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا سَقَطَ الذُّبَابُ فِي الطَّعَامِ فَامْقُلُوهُ، فَإِنَّ فِي إِحْدَى جَنَاحَيْهِ سُمًّا وَفِي الْآخَرِ شفاءٌ وَإِنَهُ يُقَدِّمُ السُّمَّ وَيُؤَخِّرُ الْشِّفَاءَ " فَلَوْ كَانَ يُنَجِّسُ بِمَوْتِهِ لَمَا أَمَرَ بِمَقْلِهِ وَمَقْلُهُ سَبَبٌ لِمَوْتِهِ، وَرَوَى نَبِيهٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ بِشْرِ بْنِ مَنْصُورٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ سَلْمَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَا سَلْمَانُ كُلُّ طعامٍ وشرابٍ وَقَعَتْ فِيهِ ذبابةٌ لَيْسَ لَهَا دمٌ فَمَاتَتْ فِيهِ فَهُوَ حلالٌ أَكْلُهُ وَشُرْبُهُ وَوُضُوءُهُ " وَهَذَا إِنْ ثَبَتَ نَصٌّ لَا يَحْتَمِلُ خِلَافَهُ، وَلِأَنَّ فِي التَّحَرُّزِ مِنْهُ مَشَقَّةً فَعُفِيَ عَنْهُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute