قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا حَدَّ عَلَيْهِ وَلَا عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَجْعَلُ إِشَارَتَهَا بِالزِّنَا إِقْرَارًا فتصير كالجاحدة، وعندنا يجب الحد عليه وعليها إِنْ أَشَارَتْ بِالْإِقْرَارِ، وَكَذَلِكَ الْأَخْرَسُ إِذَا أَشَارَ بالإقرار بالزنا حد.
وقد مضت هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي كِتَابِ " الْإِقْرَارِ) ثُمَّ يُقَالُ لِأَبِي حَنِيفَةَ: لَيْسَ فِي خَرَسِهَا أَكْثَرُ مِنْ سُكُوتِهَا وَسُكُوتُهَا لَا يَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ الْحَدِّ عليه، كذلك خرسها والله أعلم.
[(مسألة)]
قال الشافعي: " وَمَتَى رَجَعَ تُرِكَ وَقَعَ بِهِ بَعْضُ الْحَدِّ أَوْ لَمْ يَقَعْ) .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا رَجَعَ الْمُقِرُّ بِالزِّنَا عَنْ إِقْرَارِهِ قُبِلَ رُجُوعُهُ وَسَقَطَ الْحَدُّ عَنْهُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ، سَوَاءٌ وَقَعَ بِهِ بَعْضُ الْحَدِّ أَوْ لَمْ يَقَعْ.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمَالِكٌ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَدَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ: لَا يُقْبَلُ رُجُوعُهُ وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْحَدُّ، سَوَاءً وَقَعَ به الْحَدِّ أَوْ لَمْ يَقَعْ.
وَقَالَ بَعْضُ الْعِرَاقِيِّينَ: يُقْبَلُ رُجُوعُهُ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي حَدِّهِ وَلَا يُقْبَلُ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ أَتَى مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِ لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ حَدَّ اللَّهِ عَلَيْهِ) فَدَلَّ عَلَى أَنْ لَا تَأْثِيرَ لِلرُّجُوعِ بَعْدَ إِبْدَاءِ الصَّفْحَةِ.
قَالُوا: ولأنه حق ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْقُطَ بِرُجُوعِهِ قِيَاسًا عَلَى حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ.
وَدَلِيلُنَا قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ادرؤوا الْحُدُودَ بِالشُّبَهَاتِ) وَرُجُوعُهُ شُبْهَةٌ لِاحْتِمَالِ صِدْقِهِ، وَلِأَنَّ مَاعِزًا لَمَّا هَرَبَ مِنْ حَرِّ الْأَحْجَارِ وَتَبَعُوهُ حَتَّى قَتَلُوهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " هلا تركتموه لعله أن يتوب فيتوب الله عليه) فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِرُجُوعِهِ تَأْثِيرٌ لَمْ يُنْدَبْ إِلَى تَرْكِهِ بَعْدَ الْأَمْرِ بِرَجْمِهِ.
وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا أَقَرَّ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالزِّنَا ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ فَتَرَكَهُ وَقَالَ: لَأَنْ أَتْرُكَ حَدًّا بِالشُّبْهَةِ أَوْلَى مِنْ أَنْ أُقِيمَ حَدًّا بِالشُّبْهَةِ، وَوَافَقَ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه على مِثْلِ هَذَا، وَلَيْسَ لَهُمَا فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ فَكَانَ إِجْمَاعًا، وَلِأَنَّهُ حَدٌّ لِلَّهِ تَعَالَى ثَبَتَ بِقَوْلِهِ: فَجَازَ أَنْ يَسْقُطَ بِرُجُوعِهِ كَالرِّدَّةِ، وَلِأَنَّ ما ثبت من حدود الله تعالى بالقول يجب أَنْ يَسْقُطَ بِالْقَوْلِ قِيَاسًا عَلَى رُجُوعِ الشُّهُودِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute