أَحَدُهُمَا: وَهُوَ يُحْكَى عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ فِيمَا عُلِّقَ عَنْهُ: أَنَّ حَدَّ الِافْتِرَاقِ فِي بَيْعِهِ أَنْ يُفَارِقَ مَجْلِسَ بَيْعِهِ الَّذِي ابْتَاعَ فِيهِ مِنِ ابْنِهِ إِلَى حَيْثُ لَا يُنْسَبُ فِي الْعُرْفِ إِلَيْهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ تَفَرُّقًا يَلْزَمُ بِهِ الْبَيْعُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا: إِنَّ الْخِيَارَ بَاقٍ وَإِنْ فَارَقَ مَجْلِسَهُ، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُفَارِقًا لِنَفْسِهِ وَيَكُونُ الْخِيَارُ بَاقِيًا إِلَى بُلُوغِ ابْنِهِ، أَوْ يُخَيِّرُ الْأَبُ نَفْسَهُ عَنِ ابْنِهِ، فَيَخْتَارُ لِنَفْسِهِ وَعَنِ ابْنِهِ إِمْضَاءَ الْبَيْعِ وَقَطْعَ الْخِيَارِ، فَيَلْزَمُ حِينَئِذٍ الْبَيْعُ.
فَأَمَّا إِذَا مَاتَ أَحَدُ الْمُتَبَايِعَيْنِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ، فَانْتَقَلَ الْخِيَارُ إِلَى وَارِثِهِ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا، فَلَهُ الْخِيَارُ فِي مَوْضِعِهِ الَّذِي بَلَغَهُ حَيْثُ كَانَ، فَإِنْ زَالَ عَنِ الْمَوْضِعِ، سَقَطَ خِيَارُهُ.
وَإِنِ اخْتَارَ أَحَدُهُمَا الْفَسْخَ وَالْآخَرُ الْإِمْضَاءَ، غَلَبَ الْفَسْخُ عَلَى الْإِمْضَاءِ؛ لِأَنَّ مَوْضُوعَ الْخِيَارِ الْفَسْخُ.
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَفْتَرِقَ الْمُتَبَايِعَانِ عَنْ قَصْدٍ لِقَطْعِ الْخِيَارِ وَلُزُومِ الْبَيْعِ، أو غير قصد ناسين، فَهَذَا الْكَلَامُ فِي حَدِّ الِافْتِرَاقِ وَحُكْمِهِ وَمَا يَتَعَلَّقُ عَلَيْهِ مِنْ فُرُوعِهِ.
فَصْلٌ:
فَأَمَّا التَّخْيِيرُ الْقَائِمُ فِي قَطْعِ الْخِيَارِ وَلُزُومِ الْبَيْعِ مَقَامَ الِافْتِرَاقِ:
فَهُوَ أَنْ يُخَيِّرَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ بَعْدَ الْبَيْعِ فَيَخْتَارُ الْإِمْضَاءَ، فَيَنْقَطِعُ بِذَلِكَ الْخِيَارُ، وَيَلْزَمُ مَعَهُ الْعَقْدُ وَإِنْ كَانَا فِي مَجْلِسِ بَيْعِهِمَا لَمْ يَتَفَرَّقَا.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: لَا حُكْمَ لِلتَّخْيِيرِ فِي لُزُومِ الْبَيْعِ، وَهُمَا عَلَى خِيَارِهِمَا مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا لِعُمُومِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا ".
وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ: الْخَبَرُ الْمَرْوِيُّ فِي كِتَابِنَا رَابِعًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " كل بيعين فلا بيع بينهما حتى يَفْتَرِقَا أَوْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: اخْتَرْ ". وَرُوِيَ أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ابْتَاعَ مِنْ أَعْرَابِيٍّ فَرَسًا فَقَالَ لَهُ: " اخْتَرْ " فَقَالَ: عَمَّرَكَ اللَّهُ مِمَّنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " امْرُؤٌ مِنْ قُرَيْشٍ ".
وَلِأَنَّ الْخِيَارَ خِيَارَانِ: خِيَارُ شَرْطٍ، وَخِيَارُ عَقْدٍ.
ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ يَنْقَطِعُ بِالتَّخْيِيرِ، فَكَذَلِكَ خِيَارُ الْعَقْدِ يَجِبُ أَنْ يَنْقَطِعَ بِالتَّخْيِيرِ.
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ التَّخْيِيرَ يَقُومُ مَقَامَ الِافْتِرَاقِ فِي قَطْعِ الْخِيَارِ وَلُزُومِ الْبَيْعِ، فَخَيَّرَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ:
فَإِنِ اخْتَارَا جَمِيعًا الْإِمْضَاءَ، انْقَطَعَ الْخِيَارُ وَلَزِمَ الْبَيْعُ.
وَإِنِ اخْتَارَا جَمِيعًا الْفَسْخَ، انْفَسَخَ الْبَيْعُ وَإِنِ اخْتَارَ أَحَدُهُمَا الفسخ والآخر الإمضاء غلبا الْفَسْخَ عَلَى الْإِمْضَاءِ، وَفُسِخَ الْبَيْعُ، لِأَنَّ مَوْضُوعَ الخيار الفسخ.