للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا احْتَاجَ الْقَاضِي إِلَى الْبَحْثِ عَنْ أَحْوَالِ الشُّهُودِ عَوَّلَ فِيهِمْ عَلَى أَصْحَابِ مَسَائِلِهِ، لِيَعْرِفَ مِنْهُمُ الْجَرْحَ وَالتَّعْدِيلَ.

ثُمَّ وَصَفَ الشَّافِعِيُّ مَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ مَسَائِلِهِ، بِسَبْعَةِ أَوْصَافٍ:

أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونُوا جَامِعِينَ لِلْعَفَافِ فِي الطُّعْمَةِ وَالْأَنْفُسِ. وَالْعَفَافُ فِي الطُّعْمَةِ أَنْ لَا يَأْكُلُوا الْحَرَامَ وَالشُّبَهَ فَيَدْعُوهُمْ إِلَى قَبُولِ الرَّشْوَةِ. وَالْعَفَافُ فِي الْأَنْفُسِ أَنْ لَا يُقْدِمُوا عَلَى ارْتِكَابِ مَحْظُورٍ أَوْ مُشْتَبَهٍ فَيَبْعَثُهُمْ عَلَى التَّحْرِيفِ وَالْكَذِبِ.

وَالْوَصْفُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونُوا وَافِرِي الْعُقُولِ لِيَصِلُوا بِوُفُورِ عُقُولِهِمْ إِلَى غَوَامِضِ الْأُمُورِ بِلُطْفٍ، وَيَتَحَرَّزُوا بِوُفُورِ عُقُولِهِمْ أَنْ يَتِمَّ عَلَيْهِمْ خِدَاعٌ أَوْ حِيلَةٌ، فَيَجْمَعُوا بِوُفُورِ عُقُولِهِمْ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ.

وَالْوَصْفُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونُوا بَرَآءَ مِنَ الشَّحْنَاءِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّاسِ فَلَا يَكُونُوا مِمَّنْ يُعَادِي النَّاسَ وَيَحْسُدُهُمْ، فَإِنَّ مَنْ كَانَ فِي طِبَاعِهِ الْعَدَاوَةُ وَالْحَسَدُ، كَانَ مِنَ الْخَيْرِ بَعِيدًا، وَمِنَ الشَّرِّ قَرِيبًا، فَلَمْ يُوثَقْ بِخَبَرِهِ.

وَالْوَصْفُ الرَّابِعُ: أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْعَصَبِيَّةِ فِي نَسَبٍ أَوْ مَذْهَبٍ فَيَمِيلُ مَعَ مُوَافِقِهِ فِي تَحْسِينِ قَبِيحِهِ، وَيَمِيلُ عَلَى مُخَالِفِهِ فِي تَقْبِيحِ حَسَنِهِ.

وَالْوَصْفُ الخامس: أن يكون بعيدا عن مماظة الناس والمماظة اللَّجَاجُ؛ لِأَنَّ اللَّجُوجَ يَنْصُرُ هَوَاهُ، وَيَرْتَكِبُ مَا يَهْوَاهُ، وَلَا يَرْجِعُ عَنِ الْخَطَأِ وَإِنْ ظَهَرَ لَهُ الصَّوَابُ فَلَمْ يُؤْمَنْ بِلُجَاجِهِ أَنْ يَعْدِلَ مَجْرُوحًا، أَوْ يَجْرَحَ مُعَدَّلًا.

وَالْوَصْفُ السَّادِسُ: أَنْ يَكُونُوا جَامِعِينَ لِلْأَمَانَةِ لِيُورِدَ بِأَمَانَتِهِ مَا سَمِعَهُ وَعَرِفَهُ وَلَا يَتَأَوَّلُ فِيهِ مَا يَصْرِفُهُ عَنْ أَقْوَى الْأَمْرَيْنِ إِلَى أَضْعَفِهِمَا وَعَنْ أَظْهَرِ الْحَالَيْنِ إِلَى أَخْفَاهُمَا.

وَالْوَصْفُ السَّابِعُ: أَنْ لَا يَسْتَرْسِلَ فَيَسْأَلَ عَدُوًّا مُبَايِنًا مُنَابِذًا وَلَا صَدِيقًا مُوَاصِلًا، لِأَنَّ الْعَدُوَّ يُظْهِرُ الْقَبِيحَ وَيُخْفِي الْحَسَنَ، وَالصَّدِيقُ يُظْهِرُ الْحَسَنَ وَيُخْفِي الْقَبِيحَ، وَلِيَعْدِلْ إِلَى سُؤَالِ مَنْ خَرَجَ عَنِ الْفَرِيقَيْنِ، فَلَمْ يَتَظَاهَرْ بِعَدَاوَةٍ، وَلَمْ يَتَخَصَّصْ بِصَدَاقَةٍ، لِأَنَّ رَأْيَهُ أَسْلَمُ، وَقَوْلَهُ أَصْدَقُ، وَهَذَا الْوَصْفُ رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِ صَاحِبِ الْمَسَائِلِ وَلَا يَرْجِعُ إِلَى صِفَتِهِ.

فَإِذَا تَكَامَلَتْ هَذِهِ الْأَوْصَافُ فِي أَصْحَابِ مَسَائِلِهِ وَإِنْ كَانَ كَمَالُهَا مُتَعَذَّرًا صَارُوا أَهْلًا أَنْ يُعَوِّلَ عَلَيْهِمْ فِي الْبَحْثِ وَيَرْجِعُ إِلَى قَوْلِهِمْ فِي التَّعْدِيلِ والجرح.

[(مسألة)]

: قال الشافعي: " وَيَحْرِصُ عَلَى أَنْ لَا يُعْرَفَ لَهُ صَاحِبُ مَسْأَلَةٍ فَيُحْتَالَ لَهُ ".

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ احْتِيَاطِ الْحُكَّامِ فِي أَنْ لَا يُعْرَفَ أَصْحَابُ مَسَائِلِهِ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ مَسَائِلَ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ لَا يُعْرَفُوا بَيْنَ النَّاسِ بِأَنْسَابِهِمْ وَأَسْمَائِهِمْ وَإِنَّمَا احْتَاطُوا بِذَلِكَ حَتَّى لَا يُحْتَالَ عَلَيْهِمْ فِيمَنْ سَأَلُوا عَنْ حَالِهِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>