للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

مِنْ مَاءِ الْإِدَاوَةِ قَطْرَةٌ انْحَلَّتِ الْيَمِينُ لِأَنَّهُ لَا حِنْثَ فِيهَا إِنْ شَرِبَ بَاقِيَ مَائِهَا، فَلَوْ شَكَّ أَذَهَبَ مِنْهَا قَطْرَةٌ أَوْ لَمْ يَذْهَبْ، فَشَرِبَ جَمِيعَ مَائِهَا، فَفِي حِنْثِهِ وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: يَحْنَثُ، لِأَنَّ ذَهَابَ الْقَطْرَةِ مَشْكُوكٌ فِيهِ.

والوجه الثاني: لا يحنث، لأت الحنث مشكوك فيه.

[فصل]

: فأما إذا حلفت لَا شَرِبْتُ مَاءَ هَذَا النَّهْرِ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا سَبِيلَ إِلَى شُرْبِ مَاءِ النَّهْرِ كُلِّهِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِبَرِّهِ وَلَا لِحِنْثِهِ فِيمَا شَرِبَ مِنْهُ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي شُرْبِهِ مِنْهُ عَلَى وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ بحنث بِمَا شَرِبَ مِنْهُ، لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَحَالَ شُرْبُ جَمِيعِهِ، صَارَتِ الْيَمِينُ مَعْقُودَةً عَلَى مَا لَا يَسْتَحِيلُ لِأَنْ لَا يَصِيرَ بِيَمِينِهِ بَعْدَ الْعَقْدِ لَغْوًا.

أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَالَ: وَاللَّهِ لَا شَرِبْتُ الْمَاءَ حَنِثَ بِشُرْبِ مَا قَلَّ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ دُخُولُ الْأَلِفِ وَاللَّامِ يَقْتَضِي اسْتِيعَابَ جَمِيعِهِ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ شُرْبُ جَمِيعِهِ مِنَ الْمُسْتَحِيلِ، حُمِلَ عَلَى شُرْبِ مَا لَا يَسْتَحِيلُ، كَذَلِكَ مَاءُ النَّهْرِ لَمَّا اسْتَحَالَ شُرْبُ جَمِيعِهِ، حُمِلَ عَلَى مَا لَا يَسْتَحِيلُ مِنْ شُرْبِ بَعْضِهِ، وَتَأَوَّلَ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَا سَبِيلَ إِلَى شُرْبِ مَاءِ النَّهْرِ كُلِّهِ عَلَى حَمْلِ يَمِينِهِ عَلَى مَا يَجِدُ السَبِيل إِلَيْهِ، وَهُوَ أَنْ يَشْرَبَ مِنْ مَاءِ النَّهْرِ، فَعَلَى هَذَا: أَيُّ شَيْءٍ شَرِبَ مِنْ مَائِهِ حَنِثَ بِهِ مِمَّا يَرْوِي أَوْ لَا يَرْوِي.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الظَّاهِرَ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِشُرْب شَيْء مِنْ مَائِهِ، لِأَنَّ يَمِينَهُ تَوَجَّهَتْ إِلَى شُرْبِ جَمِيعِهِ، لِأَنَّهُ عَقَدَهَا عَلَى مَاءِ النَّهْرِ، وَلَمْ يُطْلِقْ فَصَارَ النَّهْرُ مِقْدَارًا كَالْإِدَاوَةِ وَلَيْسَ إِذَا اسْتَحَالَ شُرْبُ الْجَمِيعِ وَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى شُرْبِ مَا لَا يَسْتَحِيلُ.

أَلَا تَرَاهُ لَوْ حَلَفَ لَأَصْعَدَنَّ السَّمَاءَ، وَهُوَ مُسْتَحِيلٌ لَمْ يُحْمَلْ عَلَى صُعُودِ السَّقْفِ، وَقَدْ يُسَمَّى سَمَاءً، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحِيلٍ، وَوَجَبَ حَمْلُ يَمِينِهِ فِي صُعُودِ السَّمَاءِ عَلَى الْحَقِيقَةِ دُونَ الْمَجَازِ كَذَلِكَ فِي شُرْبِ مَاءِ النَّهْرِ فَأَمَّا إِذَا قَالَ: لَا شَرِبْتُ الْمَاءَ، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ لَفْظُ تَعْرِيفٍ وُضِعَ لِاسْتِيعَابِ الْجِنْسِ تَارَةً وَلِلْمَعْهُودِ أُخْرَى وَهُوَ حَقِيقَةٌ فِيهِمَا، فَإِذَا اسْتَحَالَ اسْتِيعَابُ الْجِنْسِ حُمِلَ عَلَى الْمَعْهُودِ، وَكَانَ حَقِيقَةً فِيهِ، وَفَارَقَ مَاءَ النَّهْرِ لِأَنَّ الِاسْمَ حَقِيقَةٌ فِي جَمِيعِهِ وَمَجَازٌ فِي بَعْضِهِ، وَتَأَوَّلَ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ: " وَلَا سَبِيلَ إِلَى شُرْبِ مَاءِ النَّهْرِ كُلِّهِ " بِسُقُوطِ حِنْثِهِ.

ثُمَّ يَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فِي النَّفْيِ أَنْ يَعْقِدَ بيمينه عَلَى الْإِثْبَاتِ فَيَقُولَ: وَاللَّهِ لَأَشْرَبَنَّ مَاءَ هَذَا النَّهْرِ، فَعَلَى مُقْتَضَى قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ: مَتَى شَرِبَ بَعْضَ مَائِهِ بَرَّ، لِأَنَّهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>