للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لَا يَبْقَى عَلَيَّ غَدًا مِنْ حَقِّكَ شيءٌ فَيَبَرَّ ".

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَلِسُقُوطِ الْحَقِّ عَنْهُ بِغَيْرِ أَدَاءٍ حَالَتَانِ:

إِحْدَاهُمَا: هِبَةٌ تَتَوَجَّهُ إِلَى الْأَعْيَانِ.

وَالثَّانِي: إِبْرَاءٌ يَتَوَجَّهُ إِلَى الذِّمَّةِ، فَأَمَّا الْهِبَةُ فَهِيَ تَمْلِيكٌ محضٌ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْقَبُولِ بَعْدَ الْبَدَلِ وَالْقَبْضِ بَعْدَ الْعَقْدِ، فَإِذَا حَلَفَ لَيَقْضِينَّهُ حَقَّهُ فِي غدٍ أَوْ لَيَدْفَعَنَّ إِلَيْهِ حَقَّهُ فِي غدٍ فَوَهَبَهُ صَاحِبُ الْحَقِّ لَهُ حَنِثَ الْحَالِفُ، لِأَنَّ الْحَقَّ سَقَطَ بِغَيْرِ دَفْعٍ، وَقَدِ اخْتَارَ التَّمَلُّكَ فَصَارَ مُخْتَارًا لِلْحِنْثِ، فَحَنِثَ وَلَوْ كَانَ الْحَقُّ فِي الذِّمَّةِ فَأَبْرَأَهُ مِنْهُ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْإِبْرَاءَ تَمْلِيكٌ يَقِفُ عَلَى الْقَبُولِ حَنِثَ كَالْهِبَةِ وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ إِسْقَاطٌ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى الْقَبُولِ فَفِي حِنْثِهِ قَوْلَانِ، كَالْمَغْلُوبِ عَلَى الْحِنْثِ، وَلَكِنْ لَوْ قَالَ: وَاللَّهِ لَا فَارَقْتُكَ وَلِي عَلَيْكَ حَقٌّ، فَوَهَبَهُ لَهُ أَوْ أَبْرَأَهُ مِنْهُ بَرَّ فِي يَمِينِهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُ بَعْدَ الْهِبَةِ، وَالْإِبْرَاءِ حقٌ.

وَلَوْ كَانَ لَهُ عِنْدَهُ وَدِيعَةٌ فَفَارَقَهُ قَبْلَ اسْتِرْجَاعِهَا نُظِرَ مَخْرَجُ يَمِينِهِ، فَإِنْ قَالَ: لَا أُفَارِقُكَ وَلِي عَلَيْكَ حقٌّ بَرَّ مَعَ بَقَاءِ الْوَدِيعَةِ، لِأَنَّهُ لَيْسَتْ عَلَيْهِ، وَإِنْ قَالَ: لَا أُفَارِقُكَ وَلِي عِنْدَكَ حَقٌّ حَنِثَ بِبَقَاءِ الْوَدِيعَةِ، لِأَنَّهَا حَقٌّ لَهُ عِنْدَهُ.

وَلَوْ كَانَ لَهُ عِنْدَهُ عَارِيَةٌ حَنِثَ فِي الْحَالَيْنِ سَوَاءٌ قَالَ: عَلَيْهِ أَوْ عِنْدَهُ، لِأَنَّ عَلَيْهِ ضَمَانَهَا وَعِنْدَهُ عينها.

[(فصل:)]

ولو حلف لا بعت لِزَيْدٍ مَتَاعًا فَوُكِّلَ زَيْدٌ فِي بَيْعِ مَتَاعِهِ فَبَاعَهُ الْحَالِفُ لَمْ يَحْنَثْ، وَعَلَى مَذْهَبٍ مَالِكٍ يَحْنَثُ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّهُ أَضَافَ الْمَتَاعَ إِلَى زيد بلام التمليك، فصارت يمين مَقْصُورَةً عَلَى مِلْكِ زَيْدٍ، وَهَذَا الْمَتَاعُ مِلْكٌ لِغَيْرِ زَيْدٍ، وَلَوْ قَالَ: وَاللَّهِ لَا بِعْتُ مَتَاعًا فِي يَدِ زَيْدٍ فَوُكِّلَ زَيْدٌ فِي بَيْعِ مَتَاعِهِ فَبَاعَهُ الْحَالِفُ نُظِرَ فِي تَوْكِيلِ زَيْدٍ فَإِنْ وُكِّلَ أَنْ يَبِيعَهُ كَيْفَ رَأَى بِنَفْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ حَنِثَ الْحَالِفُ، لِأَنَّهُ قَدْ بَاعَ مَتَاعًا فِي يَدِ زَيْدٍ، وَإِنْ وُكِّلَ أَنْ يَبِيعَهُ بِنَفْسِهِ فَدَفَعَهُ إِلَى الْحَالِفِ حَتَّى بَاعَهُ كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا، وَلَمْ يَحْنَثْ بِهِ الْحَالِفُ وَيَكُونُ الْحِنْثُ وَاقِعًا بِمَا يَصِحُّ مِنَ الْبَيْعِ دُونَ مَا فَسَدَ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْعُقُودِ إذا حلف لا يعقدها، فعقدها عقداً فاسد لَمْ يَحْنَثْ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَحْنَثُ بِالصَّحِيحِ مِنْهَا وَالْفَاسِدِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْعَقْدَ فِعْلٌ، وَالصِّحَّةَ وَالْفَسَادَ حُكْمٌ، وَعَقْدَ يَمِينِهِ عَلَى الْفِعْلِ دُونَ الْحُكْمِ.

وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّ الْعَقْدَ مَا تَمَّ، وَالْفَسَادَ يَمْنَعُ مِنْ تَمَامِهِ، وَإِذَا لَمْ يَتِمَّ شَرْطُ الْحِنْثِ لَمْ يَقعْ كَالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ، فَإِنَّهُ وَافَقَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِهِ، وَخَالَفَ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ،

<<  <  ج: ص:  >  >>