أَحَدُهُمَا: الضَّرِيرُ بِمَكَّةَ أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الْأَمْصَارِ، فَإِنْ كَانَ بِمَكَّةَ كَانَ الْخَبَرُ عَنْ مُشَاهَدَةٍ. وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ كَانَ عَنْ تَفْوِيضٍ
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: الْبَصِيرُ بِمَكَّةَ أَوْ فِيمَا قَرُبَ مِنْ مِيقَاتِهَا إِذَا كَانَ مَمْنُوعًا بِحَائِلٍ غَيْرِ مُسْتَحْدَثٍ مِنْ جَبَلٍ أَوْ أَكَمَةٍ فَإِنَّهُ يَسْتَخْبِرُ مَنْ عَلَى الْجَبَلِ الْحَائِلِ مِنَ الْمُشَاهِدِينَ
وَأَمَّا الضَّرْبُ الرَّابِعُ: وَهُوَ مَنْ فَرْضُهُ التَّفْوِيضُ فَهُوَ الرَّاحِلُ إِلَى بَلَدٍ كَبِيرٍ كَثِيرِ الْأَهْلِ قَدِ اتَّفَقُوا عَلَى قِبْلَتِهِمْ فِيهِ، كَالْبَصْرَةِ وَبَغْدَادَ، فَيَسْتَقْبِلُ قِبْلَتَهُمْ تَفْوِيضًا لِاتِّفَاقِهِمْ، لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى قَدِيمِ الزَّمَانِ، وَتَعَاقُبِ الْأَعْصَارِ، وَكَثْرَةِ الْعَدَدِ أَنْ يَكُونُوا عَلَى خَطَأٍ يَسْتَدْرِكُهُ الْوَاحِدُ بِاجْتِهَادِهِ
وَأَمَّا الضَّرْبُ الْخَامِسُ: وَهُوَ مَنْ فَرْضُهُ الِاجْتِهَادُ فَهُوَ الْبَصِيرُ إِذَا كَانَ سَائِرًا فِي بَرٍّ، أَوْ بَحْرٍ أَوْ فِي قَرْيَةٍ قَلِيلَةِ الْأَهْلِ فَعَلَيْهِ الِاجْتِهَادُ فِي الْقِبْلَةِ بِالدَّلَائِلِ الْمَنْصُوبَةِ عَلَيْهَا وَهَلْ عَلَيْهِ فِي اجْتِهَادِهِ طَلَبُ الْعَيْنِ أَوِ الْجِهَةِ؟ فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الَّذِي نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ أَنَّ عَلَيْهِ فِي اجْتِهَادِهِ طَلَبَ الْجِهَةِ دُونَ الْعَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة، لِأَنَّ الْعَيْنَ مَعَ الْبُعْدِ عَنْهَا يَتَعَذَّرُ إِصَابَتُهَا، وَلِأَنَّ الصَّفَّ الْوَاحِدَ لَوِ امْتَدَّ حَتَّى خَرَجَ عَنْ طُولِ الْكَعْبَةِ جَازَتْ صَلَاةُ جَمِيعِهِمْ، وَلَمْ يَلْزَمْهُمْ أَنْ يَعْدِلُوا عَنِ اسْتِوَاءِ الصَّفِّ مُنْحَرِفِينَ طَلَبًا لِمُوَافَقَةِ الْعَيْنِ فَقَدْ عُلِمَ أَنَّ بَعْضَهُمْ عَادِلٌ عَنِ الْعَيْنِ إِلَى الْجِهَةِ
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قاله فِي " الْأُمِّ " إِنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ فِي اجْتِهَادِهِ طَلَبُ الْعَيْنِ؛ فَإِنْ أَخْطَأَهَا إِلَى الْجِهَةِ أَجْزَأَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَزِمَ الدَّانِيَ مِنَ الْكَعْبَةِ مُصَادَفَةُ عينها لزم والنائي عَنْهَا فِي اجْتِهَادِهِ طَلَبُ عَيْنَهَا، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَتَوَصَّلُ بِالِاجْتِهَادِ إِلَى مَا كَانَ يَلْزَمُهُ بِالْيَقِينِ
وَأَمَّا الضَّرْبُ السَّادِسُ: وَهُوَ مَنْ فَرْضُهُ التَّقْلِيدُ وَهُوَ الضَّرِيرُ فِي السَّفَرِ يُقَلِّدُ الْبَصِيرَ لِيَجْتَهِدَ لَهُ فِي الْقِبْلَةِ؛ لِأَنَّهُ بِذَهَابِ بَصَرِهِ قَدْ فَقَدَ آلَةَ الِاجْتِهَادِ فِي الْقِبْلَةِ، فَصَارَ كَالْعَامِّيِّ يُقَلِّدُ الْعَالِمَ فِي الْأَحْكَامِ؛ لِفَقْدِهِ مَا يَتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى عِلْمِهَا
وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّقْلِيدِ وَالْخَبَرِ: أَنَّ التَّقْلِيدَ يَكُونُ عَنْ إِخْبَارٍ، وَالْخَبَرَ يَكُونُ عَنْ يَقِينٍ
وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّقْلِيدِ وَالتَّفْوِيضِ: أَنَّ التَّقْلِيدَ يَحْتَاجُ إِلَى سُؤَالٍ وَجَوَابٍ، وَالتَّفْوِيضَ لَا يحتاج إلى سؤال ولا جواب
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا دَلَائِلُ الْقِبْلَةِ الَّتِي يَتَوَصَّلُ بِهَا الْمُجْتَهِدُ إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ فَهِيَ الشَّمْسُ فِي مَطْلَعِهَا، وَمَغْرِبِهَا، وَالْقَمَرُ فِي سَيْرِهِ وَمَنَازِلِهِ، وَالنُّجُومُ فِي طُلُوعِهَا، وَأُفُولِهَا، وَالرِّيَاحُ الْأَرْبَعُ فِي هُبُوبِهَا وَالْجِبَالُ فِي مَرَاسِيهَا، وَالْبِحَارُ فِي مَجَارِيهَا إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الدَّلَائِلِ الَّتِي يَخْتَصُّ كُلُّ فَرِيقٍ بِنَوْعٍ مِنْهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: ١٦] وَقَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}