قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْمَرْ بِالْمُشَاوَرَةِ لِلتَّقْلِيدِ وَإِنَّمَا أُمِرَ بِهَا لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لِيَتَوَصَّلَ بِهَا إِلَى مَعْرِفَةِ مَا لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ مِنَ الْأَدِلَّةِ، وَرُبَّمَا خَفِيَتْ عَلَيْهِ سُنَّةٌ عَلِمَ بِهَا الْمُسْتَشَارُ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهَا الْمُسْتَشِيرُ.
وَالثَّانِي: لِيَسْتَوْضِحَ بِمُنَاظَرَتِهِمْ طُرُقَ الِاجْتِهَادِ وَالتَّوَصُّلِ إِلَى غَوَامِضِ الْمَعَانِي، فَإِنَّ بِاجْتِمَاعِ الْخَوَاطِرِ فِي الْمُنَاظَرَةِ يَكْمُلُ الِاسْتِيضَاحُ وَالْكَشْفُ فَلِذَلِكَ كَانَ مَأْمُورًا بِهَا.
( [القول في التقليد] )
:
[(مسألة)]
: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " فَأَمَّا أَنْ يُقَلِّدَهُ فَلَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ ذَلِكَ لِأَحَدٍ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ".
أَمَّا التَّقْلِيدُ فَهُوَ قَبُولُ قَوْلٍ بِغَيْرِ دَلِيلٍ. مَأْخُوذٌ مِنْ قِلَادَةِ الْعُنُقِ، لِأَنَّهُ قَدْ جَعَلَ قَبُولَ قَوْلِهِ كَالْقِلَادَةِ فِي عُنُقِهِ.
وَهُوَ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ: أُمِرْنَا بِهِ وَضَرْبٌ نُهِينَا عَنْهُ.
فَأَمَّا الْمَأْمُورُ بِهِ فَالتَّقْلِيدُ فِي الْأَخْبَارِ وَالشَّهَادَةِ وَتَقْلِيدِ الْعَامِّيِّ لِلْعَالمِ فِيمَا يَخْتَصُّ بِهِ مِنْ عِلْمٍ، وَقَدِ اسْتَوْفَيْنَاهُ مَشْرُوحًا فِي أَوَّلِ كِتَابِنَا هَذَا.
فَأَمَّا الْمَنْهِيُّ عَنْهُ: فَهُوَ التَّقْلِيدُ فِيمَا يَعْتَقِدُهُ عِلْمًا، أَوْ يَقْضِي بِهِ حُكْمًا، وَيُفْتِي بِهِ إِخْبَارًا، فَهُوَ مَحْظُورٌ، لَا يَسْتَقِرُّ بِهِ عِلْمٌ، وَلَا يَصِحُّ بِهِ حُكْمٌ، وَلَا تَجُوزُ بِهِ فُتْيَا، وَيَسْتَوِي فِي حَظْرِهِ تَقْلِيدُ مَنْ عَاصَرَهُ وَمَنْ تَقَدَّمَهُ وَسَوَاءٌ سَاوَاهُ فِي الْعِلْمِ أَوْ زَادَ عَلَيْهِ.
وَجَوَّزَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ تَقْلِيدَ عُلَمَاءِ السَّلَفِ وَمَنْ عَاصَرَهُ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ عَلَيْهِ فِي الْعِلْمِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: ٤٣] .
وَجَوَّزَ بَعْضُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ تَقْلِيدَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ دُونَ غَيْرِهِمْ، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ".
وَجَوَّزَ آخَرُونَ مِنْهُمْ تَقْلِيدَ الصَّحَابَةِ دُونَ التَّابِعِينَ لِقَوْلِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ ".